سلوى حجازي .. نبع الحنان التى ترجم أشعارها العمالقة
* ميلها إلى العزلة والانطوائية كان وراء كتابتها للشعر باللغة الفرنسية
* كامل الشناوي ونزار قباني وأحمد رامي وصالح جودت ترجموا أشعارها إلى العربية
* تنم قصائد سلوى حجازي عن روح شفاف وقلب ملائكي ملهم بحب الحياة والإنسان
* قصيدتها “الأضواء” قدمها محمد ضياء وندي كفيلم مصور للتليفزيون المصري
* “سماح” قصيدة قام بغنائها باللغة الفرنسية المطرب المغربي عبدالوهاب الدوكالي
* منحها الرئيس “محمد أنورالسادات” بعد مصرعها وسام العمل من الدرجة الثانية باعتبارها من شهداء الوطن
كتب : أحمد السماحي
كانت لجنة الاختبار فى التليفزيون تتكون من مجموعة كبيرة من كبار التليفزيونيين والإذاعيين عند افتتاحه، وهم السينمائي المعروف “حسين حلمي”، سكرتير عام التليفزيون آنذاك، السيدة تماضر توفيق، الشاعر عبدالرحمن صدقي، المخرج الإذاعي “أنور المشري، شريف كامل، يحيي أبوبكر”، وكانت الفتاة تجلس على كرسي وأمامها على ترابيذة أشبه بالمكتب بعض الصحف وكتاب، وتسلط عليها أضواء الكاميرات الرهيبة من كل زواية، وبمجرد ما جلست كانت مفاجأة للجميع وصاحوا فى نفس واحد “هى دي وبس”!
وبدأ كل عضو فى اللجنة يسأل سؤالا فى المعلومات العامة، وكانت “سلوى رضوان حجازي” تجيب فى ثقة وحياء أيضا، وكان من ضمن الأسئلة إنت شكلك صغير يا “سلوى” إنتي اتخرجتي ولا لسه؟!، وبمنتهى البساطة ردت : أنا ربة منزل، خريجة مدرسة الفرير، وأم عندي ثلاثة أولاد “رضوى، محمد، آسر”، لم يكن ابنها “هاني” وقت الاختبار قد ولد بعد.
70 قرش فى الساعة
كان السؤال التالي إذا أردتي تقديم برامج فأي البرامج تفضلين؟ وعلى الفور قالت: برامج الأطفال، وانتهى الامتحان وكانت النتيجة واضحة، القبول والنجاح بامتياز، ومرت الأيام فى تدريب مستمر بعد أن صدر قرار بتعينها مع بعض زميلاتها، على أن تعمل بالساعة لأنها لا تحمل مؤهلا جامعيا معترفا به، فعملت بعقد فكانت تقبض بالقطعة!، وكان أجرها 70 قرش عن الساعة هى وصديقتها التى سبقتها فى التعيين بأربعة أشهر “زينب حياتي”، ومن الأخبار الطريفة التى نشرت عن “سلوى حجازي” فى جريدة “الأخبار” يوم 4 أغسطس سنة 1961 أن حسابها عن شهر يوليو فى ذلك العام بلغ 37 جنيها و41 قرش.
تحلم بالأطفال
في يوم 4 فبراير عام 1961 نشرت مجلة “الكواكب” خبرا يقول هذه الوجوه الجديدة ستزورك فى بيتك، وكتبت عن “سلوى حجازي” متخرجة من الليسيه فرانسيه عمرها 24 سنة، متزوجة من محمود شريف القاضي بالمنيا، وأم لثلاثة أطفال (رضوى 5 سنوات، محمد ثلاث سنوات، آسر سنة ونصف)، وهوايتها التطريز والرسم والخياطة وأعمال المنزل، لذلك فهى تصلح لبرامج المرأة، ولكنها تأمل أن تقدم أيضا برامج الأطفال لأنها تجيد سرد القصص عليهم، فقد جربت هذه الحكاية مع أولادها ونجحت في جذب انتباهم بطريقتها الخاصة.
نافذة على العالم
حاولت “سلوى حجازي” منذ أول يوم لاستلامها العمل بالتليفزيون أن تعمل في برامج الأطفال التى كانت تقدمها منذ أول يوم لافتتاح التليفزيون “سميحة عبدالرحمن” أو “ماما سميحة”، لكن رأى المسئولين أن تقدم برامج أخرى، لأنهم خشوا ألا تقنع الأطفال بسبب صغر سنها فى هذا الوقت، لهذا بدأت مشوارها بقراءة برنامج “نافذة على العالم”، ثم بدأت بعد فترة التدريب فى تقديم البرامج المستقلة فقدمت “الفن والحياة” و” المجلة الفنية” و”اختبر معلوماتك”، “شريط تسجيل”، “تحت الشمس”، “أمسية الأربعاء” و”20 سؤال” الذي كانت تقدمها زميلتها “ليلى رستم” قبل سفرها إلى لبنان، وأخيرا برنامجها الشهير “عصافير الجنة” الذي التف حوله ملايين الأطفال، وأعتبروا “ماما سلوى” أمهم الحنونة، وحققت بتقديمه أمنية ظلت تداعب أحلامها التليفزيونية منذ اللحظة الأولى لعملها، وبجانب هذه البرامج التى قدمتها تباعا كانت تقرأ نشرة الأخبار على “قناة 9″ باللغة الفرنسية، كما اشتركت في مهرجان التليفزيون الأول فى الإسكندرية بالاشتراك مع مجموعة من المذيعين والمذيعات وفي مقدمتهم ” سمير صبري”.
الانطوائية خلقت منها شاعرة
هذا الأسبوع لن نتحدث عن برامج “سلوى حجازي” أو رقتها أوحنانها، ولكن سنتوقف فى باب “نجوم لكن أدباء” عند موهبتها كشاعرة، فقد ذكرت الراحلة في أكثر من حوار صحفي لها إنها كانت تلميذة انطوائية، وكانت هذه الصفة فى نظرها الدافع للتعبير عن النفس من خلال سكب المشاعر فى كلمات ترتاح بعدها من أي شيئ يشغل بالها، وبعد التحاقها بالتليفزيون وأثناء زيارة للناقد والكاتب الصحفي الكبير “أحمد رجب” لزميلتها “ليلى رستم” قدمتها إليه بإعتبارها زميلة وشاعرة أيضا لها محاولات، ولكنها تكتبها باللغة التى تجيدها وتستطيع أن تعبر بها أكثر وهى الفرنسية، وشجعها “أحمد رجب”، ثم توطدت العلاقة إلى حد الصداقة بين “سلوى” وكل من الكاتب والشاعر الكبير”كامل الشناوي”، و”أحمد رامي”، و”صالح جودت”.
وأطلعت “سلوى حجازي” أول ما أطلعت الشاعر “كامل الشناوي” على قصائدها، ووجدت منه ترحيبا كبيرا، وتشجيعا بضرورة الاستمرار، ولكي يؤكد لها صدقه واقتناعه بموهبتها عرض عليها أن يشارك مع “أحمد رامي” و”صالح جودت” فى ترجمة شعرها إلى اللغة العربية، وفعلا قاموا الثلاثة بترجمة العديد من قصائدها التى نشرت في أربع دواوين هى “أيام بلا نهاية، ضوء وظلال، سماح، إطلالة”، وقد نشرت جريدة “الأهرام”خبرا في 5 إبريل عام 1962 يقول أن الشاعر “نزار قباني” يقوم بترجمة أشعار “سلوى حجازي” إلى العربية.
الأضواء تتحول إلى فيلم
نشرت مجلة “آخر ساعة” بتاريخ 6 مايو 1963 خبرا يقول قصة “سلوى حجازي” تتحول إلى فيلم، حيث يتم الآن تصوير أغنية “الأضواء” في استديو مصر بعد أن ترجمها الشاعر “كمال الشناوي”، ويشترك في غنائها الملحن والمطرب “محمد ضياء الدين” وزوجته المطربة”ندى”.
الدوكالي يلحن ويغنى “سماح”
لم تكن قصيدة “الأضواء” هى الوحيدة التى تم تلحينها وغنائها، فقد نشرت جريدة “الأخبار” خبرا قصيرا فى الأول من ديسمبر عام 1964 يقول أن المطرب المغربي “عبدالوهاب الدوكالي” سوف يقوم بتلحين وغناء قصيدة “سماح” للشاعرة “سلوى حجازي” وسيغنيها باللغة الفرنسية.
جوائز عالمية
للراحلة سلوى حجازي أربع دواوين هى “أيام بلا نهاية، إطلالة، سماح، ضوء وظلال” وحصلت على الميدالية الذهبية فى عام ١٩٦٤ من أكاديمية الشعر الفرنسية، كما حصلت على الميدالية الذهبية فى عام ١٩٦٥ فى مسابقة الشعر الفرنسى الدولى.
رامي يتحدث
يقول شاعر الشباب “أحمد رامي” في مقدمته باللغة الفرنسية لديوانها الأول “ظلال وضوء”:
“لو أن الشاعرة سلوى حجازي، صاحبة هذا الديوان، صوِّرت على هيئة الطير، لكانت بلبلا يرفرف على غصن ندي، مرسلا أغنية يطرب له الظل والماء، ولو أن لهذه الطائفة من الشعر نسخة مسموعة، لطرب من يصغي إلى هذا البلبل، لبديع توقيعه وحسن ترجيعه، فما بالك إذا كان لهذا الديوان نسخة مرئية، إذن لأبصرت العين صورة ذلك البلبل وهو يتلع جيده، ويرسل تغريده، ويحرك رأسه الصغير على رجع لحنه الشجي”.
……………………………………………………………………………………………………………………..
من يزينون الأحلام
منذ حوالي عامين أصدرت “الهيئة المصرية العامة للكتاب” كتاب يضم ديوانيين للمذيعة الراحلة هما “أيام بلا نهاية .. ظلال وضوء” بترجمة “عاطف محمد عبدالمجيد”، الأول يحتوى على 56 قصيدة وزعت على قسمين، ويحمل عنوان الديوان نفسه “أيام بلا نهاية”، والثاني عنوانه “قصائد جديدة”، وفي المقدمة كتبت الشاعرة الإهداء التالي: إلى كل من يزينون حياة الأحلام، وإلى مَن بالأفكار يثرونها”.
تقول في أولى قصائد الديوان:
ساعة أن يزعجني العالمِ
ولا أستطيع أن أغيره أنطوي
على نفسي، واجعلني أحلم.
وفي قصيدة عنوانها “باريس في 67″، تقول الشاعرة:
كان عليّ أن أراك يا باريس
مبكراً جداً حينما كانت لديّ
أغرودة أهديكِ إياها
لهذا ترين أنني أمام روعتك
لا أستطيع الآن إلا أن أنحني
منذ يونيو الماضي أنا كعصفورة
في قفص لم تعد لديها رغبة في الغناء
تسيطر على قصائد “سلوى حجازي” روح مسكونة بالأمل أحيانا واليأس أحيانا آخرى، لكن فى مطلقها تحمل روح شفافة وقلب ملائكي ملهم بحب الحياة، والإنسان ويسعى للأمن والسلام، وتقول في قصيدتها:
كيف يا ربي أكون كالأحجار
وأنا بداخلي واحة من عشب أخضر الثمار
تتألق كملايين الأنوار
لتضيء العالم.. بينما هو يرفضه!”
……………………………………………………………………………………………………………………..
ومن القصائد المؤثرة تلك التي تحمل عنوان “بائع بسكويت الفانيليا”، وكتبتها سلوى بالفرنسية في ديوان “ظلال وضوء”، وترجمها الشاعر صالح جودت، وفيها تصطحب “سلوى” طفلتها على شاطئ بورسعيد، وفجأة تشاهد بائع بسكويت الفانيليا الذي طلما التقته واشترت منه، وهى لم تزل طفلة قبل عشرة أعوام.
بائع بسكويت الفانيليا
أهكذا الدهر بنا يجري..
ويأكل العمر، ولا ندري ؟
ذكَّرني مرأك كيف انقضت
عشرة أعوام من العمر
وأنت في مغربها لم تزل
كما وعتك العين في الفجر
تدق صنجاتك، تلك التي
كانت تهز النفس بالبِشر
ونفس جلبابك، لولا البلى
محا ظلال اللون والسطر
***
عشرة أعوام توالت على
حالك فيها حادث الدهر
عدا على وجهك عادي الضنى
فاغتال منه بسمة الثغر
وذاك صندوقك، ما خطبه
بعد السنين المرة العشر ؟
تدفعه الآن على مركب
وكنت تدليه على الظهر
***
اجل تغيرنا وهي أنا
أقول: أصبحت أنا غيري
وهذه الحلوى التي طالما
أغرت صبانا لم تعد تغري
ودقة الصنجات في مسمعي
خلت من البهجة والبشر
***
فإن أكن أقبلت في لهفة
عليك لا تمشي على البحر
فليس إقبالي لأجلي أنا
كشأن أيام الصبا الغر
لكن إقبالي لأجل ابنتي
فإنني قد فاتني دوري
وكلما إلقاك في شارع
أرى دموعي بالأسى تجري
كأنك الماضي الذي عشته
في ظل أحلام المنى البكر
ذوى مع الأيام فردوسه
ومال ما فيه من الزهر
***
يا طفلتي حاضرك المزدهي
قد كان ماضي من الأمر
قد كان ماضي وشيعته
بكل ما فيه من السحر
فقد كان ماضي وضيعته
بالخوف بالغفلة بالكبر
عيشيه أنتِ اليوم، واستمتعي
بخير ما فيه من الخير
والتهميه لحظةً لحظة
واغتنميه قبل أن يجري
لا تتمني أن يمر الصبا
وتبلغي مثلي من العمر
فإن أيام الصبا إن مضت
مضى زمان الورد والعطر
لو صادفتنا لحظة حلوة
من بعده لم تخل من مر
***
يا طفلتي، أمك في نصحها
تغرق في الوهم إلى الصفر
كم مرة قالت لها أمها
هذا، فلم تسمع ولم تدر.
……………………………………………………………………………………………………………………..
ويتأكد شعورها بالخوف في قصيدة “الأضواء” التي ترجمها الشاعر “كامل الشناوي”، ومنها:
“هذه الأضواءُ، كم أكرهها
قيَّدت حريتي قيداً عنيفاً
أبعدوها.. أبعدوها..
إنها شبحٌ يبدو لعينيَّ مخيفا
قبضة تمسك ساقي ويدي
قفصٌ يحبس عصفوراً ضعيفاً
ليتني أحيا حياة مثل أفكاري طليقة
أنشق الورد وظل الورد فى حديقة
لا تعجب أذني سوى همسة أنسام رقيقة
وصدى خطو حمام شق فى الأرض طريقه
أنقر الأرض بنظرات وخطوات رشيقة
قدمي فى الرمل غاصت وتعرت كالحقيقة
فى ثنايا العشب أندس بأنفي
أنشق الراحة فى العشب الرطيب…
……………………………………………………………………………………………………………………..
رحلت سلوى بعد أن تنبأت في شعرها بأنها ستموت في زهرة شبابها، وأنها ستموت في كارثة، حيث قالت:
“عندما أتخيل مستقبلي
أراه حافلا بسوء الطالع
فأبكي عليه مقدما
إني أرى الموتَ قريبا جدا
ومن ورائه كارثة كبيرة
فأحبابي لا يزالون صغارا
أصغر من أن يستطيعوا العيْشَ وحيدين..”
……………………………………………………………………………………………………………………..
النهاية المفجعة
كتب الفصل الأخير فى رحلتها فى ٢١ فبراير ١٩٧٣، وهى فى عُمر الأربعين، حينما كانت فى طريق عودتها من بعثة للتليفزيون العربى إلى ليبيا، حيث اعترضت طائرتها التابعة للخطوط الليبية طائرتان حربيتان إسرائيليتان من طراز فانتوم، ورغم أن قائد الطائرة المدنية الليبية عدل مساره وبدأ فى الدخول إلى المجال الجوى المصرى، إلا أن الطائرتين الإسرائيليتين لاحقتاه، لتسقط الطائرة فوق أرض سيناء المحتلة آنذاك، فلقى ركاب الطائرة الـ 106 مصرعهم ومعهم سلوى حجازى، وزميلها المخرج عواد مصطفى.
وقد منحها الرئيس “محمد أنورالسادات” بعد مصرعها وسام العمل من الدرجة الثانية باعتبارها من شهداء الوطن.