إنصاف رجاء الجداوي
بقلم : محمود حسونة
كانت رجاء الجداوي حالة خاصة جداً بين نجوم الفن والمجتمع، ورغم أنها لم تكن يوماً نجمة شباك، ولم تؤد أدوار بطولة، ولَم يتصدر اسمها أفيشات سينمائية ولا تليفزيونية ولا مسرحية، ولكنه تصدر القلوب، وحظيت بحب وتقدير لم يحظ به غيرها من أصحاب الأسماء الأكثر لمعاناً والشهرة الأكثر بريقاً.
رجاء الجداوي بكاها الناس وحزنت مصر لرحيلها شعبياً وفنياً ورسمياً، وتصدر اسمها أدوات البحث واحتلت مواقع التواصل الاجتماعي، بعد أن سعى محبوها للتعبير عن حزنهم لرحيلها بكلمات تقطر تقديراً وتعبر عن مآثرها التي حرص كثيرون على تعدادها في نعيهم لها.
حزن الناس على رحيل الإنسانة أكثر من انشغالهم برحيل الفنانة، ولعل السبب في ذلك تفوق قيمتها الإنسانية على أي قيم مهنية بمراحل، بعد أن جسدت الرقي الإنساني والتواضع والعطاء اللامحدود في علاقاتها، سواء مع البسطاء المحيطين بها ومن تلتقيهم على طريق الحياة، أو مع زملائها من أهل الفن والإعلام.
من المهم أن نتعامل مع الإنسان كإنسان قبل أن ننظر إلى مستواه الاجتماعي أو الثقافي أو الاقتصادي، وبعيدا عن المهنة التي يشغلها أو مساحته السلطوية في الحياة، وهو الأمر الذي نعجز عن تطبيقه، ولكن هذه السيدة نجحت في تحقيقه باقتدار، وكان من الطبيعي أن يرد الناس باختلاف أطيافهم لها ذلك، وللأسف فإن كثيرين لم يجدوا مجالاً للرد سوى بعد الوفاة، فكان التسابق على التعبير عن مناقبها وخصالها الإنسانية.
تكريم رجاء الجداوي والانتباه إلى مناقبها الفريدة لم يكن فقط بعد وفاتها، ولكنه أصبح ملموساً بشكل واسع خلال السنوات الأخيرة، ويكفي ما قاله الرئيس عبدالفتاح السيسي في حقها خلال الاحتفال باليوم العالمي لذوي الإعاقة قبل عامين، عندما قاطعها ووجه لها كلمة قائلاً: “أنا بشكرك جداً جداً جداً.. ربنا يديكي الصحة ويكرمك.. هتفضلي طول عمرك شيك جداً.. أوعى تفتكري إني بقول لحضرتك شيك على اللبس بس.. شيك في كل حاجة”.
وتفاجأت الجداوي بتلك الكلمات، ولم تتمالك دموعها على المسرح لترد على الرئيس: “أنا أخدت أعلى وسام النهاردة.. متشكرة جداً”.
إنها كلمة حق لأن رجاء الجداوي كانت فعلاً سيدة الشياكة والرقي في الخلق والتعامل والعطاء، ولعلها شهادة لم يقلها الرئيس في حق غيرها من قبل.
وبمجرد إعلان وفاتها نعتها السيدة انتصار السيسي قرينة رئيس الجمهورية، وبهذا يكتمل التكريم الرسمي؛ وإذا وجد البعض أنه من الطبيعي أن يتسابق الفنانون والنجوم في سرد مناقبها والإفصاح عن خصالها من خلال الحكي عن مواقف جمعتهم بها، وتزيين صفحاتهم بصور تجمعهم معها، إلا أن تدفق سيل الكلام عن خصالها وروحها الحلوة وبساطتها وأخلاقها، على ألسنة بسطاء تعاملوا معها، لا يقل تقديراً لها عن كلام أهل البلاغة الفنية، وعكس صورة حقيقية عن تلك السيدة المميزة، كما عكست كل صورهم معها في مختلف الأماكن والمواقف، وجهها الدائم الإشراق والناقل للآخرين السعادة والتفاؤل، والابتسامة التي لم تفارق وجهها.
رغم وفاتها بوباء كورونا اللعين، ورغم التحذير من المشاركة في جنازات ضحاياه، إلا أن عشاق الإنسانة النبيلة رجاء الجداوي كانوا أيضاً معها نبلاء، ولَم يقبلوا إلا بتوديعها في مقابر البساتين ومشاركة ابنتها الوحيدة (أميرة مختار) الحزن عليها.
لم يبك رجاء الجداوي المصريون فقط، بل شاركهم في وداعها أبناء الدول العربية المختلفة من فنانين وأناس عاديين، وعبروا عن ذلك عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وتجاوزت حدود محبة تلك السيدة حدود وطننا العربي، لنفاجأ بصفحات نعي تأتي من العالم الغربي أيضاً، منها نعي الفنان العالمي فان دام، الذي تحدث على صفحته عن لقائه بها مرة واحدة، ولكنها كانت مميزة ليقول أنه لن ينساها أبداً، كما كتبت عنها المتحدثة باسم الحكومة البريطانية.
ليس فان دام وحده الذي التقته رجاء الجداوي وتركت لديه انطباعاً طيباً دفعه للتعبير عن حزنه لوفاتها، ولكن كثير من الناس العاديين أيضاً، وعندما تكون لديك القدرة في أن تترك بصمة جميلة لدى الآخرين من لقاء واحد فقط، فلا شك أنك إنسان مختلف.
إن حالة الحب التي ودع بها الناس الفنانة رجاء الجداوي كانت أكبر إنصاف لها وأخرس الألسن الحاقدة التي تنمرت عليها بمجرد دخولها المستشفى، مطالبين بحق أي إنسان عادي في السرير الذي كانت ترقد عليه؛ وكما كانت في حياتها أكبر من كلام “الصغار” وصغائرهم، كذلك كانت بعد مماتها.
رحم الله رجاء الجداوي وأثابها عما فعلت من خير لم تعلن عنه ولم تستغله لتكسب مزيداً من الشهرة، وألهم ابنتها وحفيدتها وكل محبيها الصبر.
mahmoudhassouna2020@gmail.com