* القامة ممشوقة لها هذا الجمع العجيب بين الإيحاء بالصلابة والإيحاء باللين
* مخلوق لا ليجلس وحتى لا ليقف بل ليرقص
* لو وقعنا على فتى غير “محمود رضا” لفشل العمل كله
* يتمتع بصفه كانت عند “عبدالحليم حافظ” وهى قدرته على جذب الحنان
* الجو الذي يشيعه في رقصه مترفعا عن الغرائز الجنسية
* كان في “ياليل يا عين” نقلة في رقص الرجال يؤرخ بها.
كتب : أحمد السماحي
كتب الأديب الكبير “يحيي حقي” شهادة هامة للغاية في حق الفنان الراحل “محمود رضا” في كتابه “يا ليل يا عين”، ونظرا لأهمية هذه الشهادة أو البورتريه الفني الجميل ننقله لكم من الكتاب إلى حضراتكم أيها القراء الأعزاء، يقول أديبنا الكبير: كان العرض المسرحي “يا ليل يا عين” لا يزال جنينا يتشكل كأنما بقوته الذاتية لا يعلمنا نحن، وجذب من أول أيامه جذب المغناطيس فتى جالسا إلى مكتب فى شركة بترول مدينة السويس، لا تخطئ العين شقرته، ولكنها تنخدع أولا بقامته، فتحسبه نحيلا، فإذا استعرضته وجدته لا يشتكي منه قصر ولا طول، القامة ممشوقة لها هذا الجمع العجيب بين الإيحاء بالصلابة والإيحاء باللين، سلسلة الظهر عمود مسجد وخيرزانة معا، الكتفان عريضتان، والهامة مرفوعة بكبرياء تتقبله، أنه بفضل وداعة عينين ومسارع حمرة الخجل إلى وجهه من فرط الأدب، واليد رخصة وقوية معا، لا نعرف هذا الفتى ولا يعرفنا هو، لم يسع إلينا ولم نسع إليه.
صدقني لا أذكر كيف حدث اللقاء، أصدفة هو أم التقاء جدولين منفصلين يسيران فى غفلة إلى لقاء محتوم يترصدهما، كلاهما سيودع عنه حياة، ويستقبل حياة جديدة، لست أحب المبالغة ولكني أزعم أن لحظة اللقاء كأنما شاءها قدر حميد، رؤوف بنا وبه، لم ندرك حينئذ أن هذا اللقاء فتح أيضا من وراء ظهورنا صفحة جديدة لما يسمى بالرقص الشعبي، انطوى بها ماضي مفلس، وبدأت بها أنفاس مستقبل ثري، هى صفحة يؤرخ بها وتحدد النقلة من حال إلى حال.
هذا الفتى الأشقر الممشوق القامة، لعل أحدا لم يكن مدركا لعذابه بجلسته إلى مكتبه، فهو مخلوق لا ليجلس وحتى لا ليقف بل ليرقص، في جسمه قوة تريد أن تنطلق أن تعبر برشاقة عن أحلام تبحث عن تفسير لها، الرغبة فى الارتفاع عن الطين طلبا للسماء، هذا هو سر القفز إلى أعلى فى البالية، مفاصل هذا الفتى تئن من التعطل لا في الحركة، إنها تريد أن تجرب كل وضع ممكن لها وأن لم يكن ممكنا لبقية البشر، ستبرهن لك أنها قادرة على كثير.
تلقى هذا الفتى دروسا في رقص البالية، ولكن لا أدري أين وعلى يد من وإلى متى؟! ولكن القدر الذي حصله بقى بين قدميه – ولا أقول بين يديه – معطلا لا يعرق كيف ينتفع به ولا كيف ينفع به، لم يكن فى مصر مجال ينفتح ولا أقول يتسع له، لعله استوثق من قدرته بالرقص فى بعض حفلات شركة البترول، ولا شك أن خلطاءه وهو يتدرب على الرقض كان أغلبهم من أبناء الخواجات، فربما رقص أيضا في بعض نوادي الطوائف الأجنبية، أصبح معروفا برقصه ولكن فى محيط ضيق إذا اننفجرت فى داخله قنبلة لم يسمع لها دوي!
لقينا ” محمود رضا” خير من نعهد إليه بدور ” ليل” بل ربما لم يكن لدينا لهذا الدور سواه، لأننا كنا نبحث عن فتى ليرقص ـ لا يغني ــ أمام ” نعيمة عاكف” التى جسدت دور ” عين”، ولو وقعنا على فتى غير ” محمود رضا” لفشل العمل كله، “ليل” فتى الصعيد الذي عشقته “عين” بنت ملك البحر، وحين لبس “محمود” لبس الفلاحين، الصديري الأبيض والخف الأصفر، وحين لف رأسه بمنديل له عقدة على الجبين، لبسه الدور، ولبس هو الدور، وتمت له صورته راقصا والقالب الذي يطابقه، لا بل الأهم من ذلك أنه وجد حينئذ أنه كان يحلم بأن يرقص رقصا مصريا على أرض مصر المصريين، أن يتقمص شخصية فلاح مصري ليعبر عن أفراحه وأتراحه، عن صراعاته وحبه للحياة، أن يبعث فيه من الموت كل عرق فني موروث من عهد “امحوتب”، أن ينشد لنا بالرقص كل مواويله، حينئذ – وكأنما فجأة – بدت لـ” محمود رضا” صفة جديدة، كانت كامنة فيه تنتظر لحظة النشور، هذه الصفة هى قدرته على جذب الحنان، فلا أظن أن أما شهدته وهو يرقص دور “ليل”، تارة يعمل في الحقل بعرق الجبين تحت وهيج الشمس، وتارة هائما مضيعا مخبولا يجري وراء “عين” من بلد إلى بلد إلا وتمنت أن تأخذه فى حضنها وتهدهده.
ولا بنتا إلا أحبت أن يكون لها مثل هذا الأخ، لأنها هى التى تستطيع أن تسعفه بحنانها الأخوي، إنني واثق أن عدد الأخوات بين المشاهدين كان أكبر من عدد العاشقات له خطيبا وزوجا، أو صاحبا، فالجو الذي يشيعه “محمود رضا” كان مترفعا عن الغرائز الجنسية، آه، لماذا ننكر نحن الرجال، أن النساء هن صانعات شهرة شباب المطربين والراقصين، صفة القدرة على جذب الحنان هى أيضا عند “عبدالحليم حافظ” وهى من أسباب شهرته.
وكانت أيضا عند ” محمد عبدالوهاب” فى مطلع أيامه – تذكر حنان أحمد شوقي – ثم لم يضره فيما بعد استغناؤه عنها بسبب سطوع فنه واكتسابه لصفة الأستاذية بدلها.
قدم إلينا “محمود رضا” كأنه عريس في زفة، فقد أحاطت به أسرته إحاطة السوار – المعصم – وكما سعدنا بمعرفته، سعدنا حقا بمعرفة هذه الأسرة، وعلى رأسها حموه الأستاذ “حسن فهمي” الضليع فى الهندسة واللغة، وفن الحياة، إنه نصب سرداقا لهذه الأسرة لكي تتجمع تحته، سرادقا من فكر متقدم متحرر، يبغي الإصلاح فى جميع المجالات، لا يزال يشقي به رغم دأبه على الدعوة له، فهو يبدو إلى اليوم كأنه لم يجد بعد خانته التى يسقط فيها، على رقعة لعبة الحياة، ولعل هذا هو قدر كل داعية للإصلاح، وبالأخص إذا كان متعدد المواهب مثله.
وأزعم أن “محمود رضا” لم يجد إلا تحت هذا السرداق منطلق أنفاسه والوثوق بحقه ومنهجه، “يد” محمود فى يد زوجته الأولى التى رحلت شابة، كانت تتكتم وهي في عز شبابها علة قاتلة، هى نفس العلة التى قتلت لي أيضا زوجتى الأولى، فى عز شبابها أيضا، رحمة الله على الاثنتين، ومن وراء الزوجة أخت لها، قامتها طويلة لدنة، ووجها وسيم، هى “فريدة فهمي” فرحنا بها كل الفرح حين علمنا أنها قادرة وراضية بأن ترقص أيضا، وقعنا على كنز، إذ كنا فى حاجة إلى فتاة مثلها تحل محل “نعيمة عاكف” إذا عاق هذه الأخيرة عن الرقص عائق.
كان “محمود رضا” في “ياليل يا عين” نقلة في رقص الرجال يؤرخ بها، وصاحبتها فى الوقت ذاته نقلة آخرى لا تقل عنها خطرا، نقلة فى نوعية طقم الراقصين والراقصات، فلأول مرة شهدنا شباب المعاهد العليا والجامعة يرقصون بين فتيات وفتيان على خشبة المسرح.