بقلم : محمد حبوشة
الدراما ليست تمثيلا للواقع في الأعمال الدرامية حتى التاريخية منها، بقدر ما هي صناعة لواقع يرسمه بدقة كاتب السيناريو وفق إملاءات تضع له أهداف محددة، فيسعى لتحقيق هذه الأهداف وفق حسابات درامية معقدة، يختار المضامين والتصورات والمشاهد التي تحقق أهدافه، لذا فالدراما تمرد خفي على الواقع يتجه لتزيين بعضه وتشويه بعضه الآخر وفق ما يريده القائم على العمل، فالواقعية في الدراما أمر مستحيل نظرا لعدم توثيق النصوص والأحداث بصورة دقيقة، فضلا عن الضرورة الدرامية في خلق البيئة المناسبة للعمل الدرامي والمنسجمة مع عناصر البناء الدرامي، فالتاريخ إذ ينقل لنا مقتطفات من سير الشخصيات والأحداث تتطلب الكتابة الدرامية صناعة واقع يحاكي تلك المعلومات ويتقارب معها، ومن هنا فإن الضرورة الدرامية تجعل من النص التاريخي عجينة بين يدي كاتب السيناريو يعيد تشكيلها وفق رؤيته، لذا فإن تمثيل الواقع أمر نسبي لا جزم فيه.
هكذا قال أحد المهاجمين في معرض تحليله للأبعاد الطبيعية لمسلسل (أم هارون) – وهو مالم ألمح له أية بوادر على الإطلاق – فالمسلسل يحكي قصة حياة ممرضة في الأربعينات من القرن الماضي، ويعكس الظروف والملابسات التي كانت تحيط بتلك السيدة “أم هارون” في مجتمع خليجي متحفظ إلى حد بعيد، كما أنه نجح في نقل صور واقعية لكيفية العيش المشترك – آنذاك – لذا أري أن كاتب المقال لا يناقض نفسه فحسب، بل أقل ما يوصف به أنه عدواني وجاهل يفتقد للفهم جراء مشاهدة مبتورة، فأنا على يقين أنه لم يرى العمل برمته كي يحكم عليه فنيا، وليس من وجهة نظر سياسية تأثرت إلى حد كبير باللغط الذي أثير حول مسلسلي (أم هارون ومخرج7) من جانب السوشيال ميديا.
وظني أنه بهذا يكون قد وقع في محظور تسطيح القضايا والعشوائية في طرحها على مواقع التواصل الاجتماعي مع بدايات الحلقات الأولى دون الصبر من جانب الجمهور على المشاهدة حتى النهاية، فحتما هناك جهد مبذول من جانب فريق العمل (المؤلف – المخرج – الممثلين) لاينبغي نسفه بجرة قلم انطباعي من المشاهدة الأولى، أو أن يتم تلخيصه في جملة اعتراضية جدلية على شاكلة (التطبيع) أو تحسين صورة اليهود أو التأكيد على المظلومية التي وقعت عليهم – بحسب أحد المحللين السياسين الإسرائيلين – حين جنح بخياله ككل بني صهيون في تزييف الحقائق الواضحة وضوح العيان، ومن ثم يجب أن ينظر إلى جهود صناع العمل بعين الاعتبار، وعدم تسيس الدراما بشكل مبتور يخرج عن أهدافها في الكشف وعرض الواقع كما ينبغي أن يكون وليس كما هو كائن، وذلك طبقا لوظيفة الدراما على حد قول أرسطو: (التاريخ يكتب الأحداث كما وقعت، أما الدراما فتكتب الأحداث كما ينبغي لها أن تقع).
إذن لا داعي للتشدق من جانب أحد مهاجمي مسلسل (أم هارون) بعبارة أن الدراما ما هى إلا مرآة وانعكاس للواقع المعاش في الأوساط الفنية، فقصص الدراما وأفكارها هي وليدة الواقع الذي يغذي كتاب الدراما بالأفكار، ومن هنا يبرر صناع الدراما أعمالهم أمام جمهورهم، ويبرر الممثلين المشاهد والأدوار التي يقومون بها، حيث يقول: لا غرابة أن تطلع علينا بطلة “أم هارون” لتكشف حسن نواياها وتمثيلها لدور واقعي وقصة حقيقية، نافية أي هدف تطبيعي لمسلسلها.
وبدوري أستغرب وأستهجن أيضا موقف اتحاد المنتجين العرب الغريب الذي حرض العرب للاحتجاج على نوعية من الدراما سماها (مسلسلات التطبيع)، حيث دعا الاتحاد العام للمنتجين العرب إلى وقف مسلسل (أم هارون، ومخرج7) بعد أن زعم مع بداية الحلقات أنه قد وردت فيهما إشارات تشجع على التطبيع مع الكيان الصهيوني وتنكر الحق التاريخي للفلسطينيين في أرضهم، وقال البيان الصادر باسم رئيس الاتحاد إبراهيم أبو ذكري: (إن المواطن الفلسطيني يواجه اليوم إضافة إلى الضغوطات النفسية والاجتماعية والاقتصادية وتداعيات الفيروس القاتل، تهديدا في ثقافته وهويته وثوابته العربية)،
وندد بيان الاتحاد العام للمنتجين العرب بمواصلة بث المسلسلين (أم هارون ومخرج 7) وقال إن العملين يعملان على محاولة تغيير الحقائق التاريخية والثوابت التي تربينا عليها والتمهيد للتطبيع مع الكيان الصهيوني، واعتبر الاتحاد في بيانه أن (هذه الأعمال أقل ما يمكن وصفها بأنها وقحة، ومستفزة، ومفسدة للتاريخ العربي، ومشوّهة للتاريخ العربي المشرف الذي يفخر به كل عربي).
ولست أدري من أين جاء بيان الاتحاد بمضونه المخل هذا، فلايوجد أصلا في متن المسلسلين أية إشارة للتطبيع سوى مشهد صغير جدا جاء على استحياء واستنكره بطل العمل في (مخرج 7)، والعجيب أن البيان المشئوم طالب الجامعة العربية بالتدخل لدى القناة لإيقاف بث كل عمل فني يسيء إلى قضيتنا الأبدية قضية العرب الأولى القضية الفلسطينية، وكأن الجامعة قد نجحت في حل القضية الفلسطينية وكل القضايا العربية العالقة وعليها الآن التوجه لقضايا فنية مختلفة، والطريف في الأمر أن الذي صاغ البيان يفتقد إلى الدقة والمشاهدة للمسلسل، حيث كتب : وكان مسلسل (أم هارون) قد تعرض لعدة انتقادات في مقدمتها الخلط في المراحل التاريخية، واعترافه ضمنيا بإسرائيل، وإنكاره للوجود الفلسطيني، فقد أشار إلى أن الانتداب فرض على دولة إسرائيل في 1948، بينما المتعارف عليه تاريخيا أن الانتداب البريطاني فرض على فلسطين العربية قبل تسليمها لليهود لإقامة دولتهم بعد مؤتمر هيرتزل الشهير، ولست أدري من أين جاء بتلك الجمل الرنانة؟.
كما يواجه أيضا مسلسل (مخرج 7) بطولة ناصر القصبي و(نادر الشمراني) – لاحظ كتب (نادر الشمراني) بدلا من (راشد الشمراني) كدليل لعدم المشاهدة والتركيز – انتقادات لاذعة بسبب ما ورد في إحدى حلقاته، من إشارة إلى العلاقات مع إسرائيل، والمشاهد التي تؤيد إقامة علاقات اقتصادية وثقافية مع دولة الكيان الصهيوني وتصف الشعب الفلسطيني بالعدو.
وهنا لابد أن أطرح عليه وعلى كل المهاجمين لمسلسلي (أم هارون ومخرج 7) سؤال أوليا : هل شاهدتم حقا وعن كثب كل حلقات المسلسلين؟
بالطبع لا ، فالذي شاهد (أم هارون) لن يلمح أية إشارة واضحة أو مبطنة في ثنايا الأحداث التي اتسمت بالموضوعية في عرض القضية، بل على العكس تماما فقد لاحظت أن القسيس المسيحي كان متطرفا في لغته التبشرية بطريقة فجة لا تناسب أجواء مسلسل، وربما كانت تلك هى نقطة الضعف الوحيدة في المسلسل، ومع ذلك أعترف بأنه ربما هنالك مشهد قصير للغاية في مسلسل (مخرج 7) تحدث فيه صراحة عن رغبته في عمل بيزنس مع رجال أعمال إسرائيليين وأنه لا مانع من التطبيع معهم، لكن المسلسل في أحداثه يغلب عليه الطابع الكوميدي مغلف بقضايا سعودية معاصرة تم الإسقاط عليها ببراعة وذكاء يعلوهما أداء بارع من جانب فريق العمل وعلى رأسهم ناصر القصبي.
تعالت الأصوات، متّهمةً مسلسل (أم هارون) بأنسنة الجلاد، واستخدامه الدراما للولوج صوب التطبيع، ومن واقع مشاهدتي المتأنية، أرى أنه على العكس كان هناك تركيز واضح من خلال الأحداث على شخصية الحاخام (دواود) بأللاعيبه الشيطانية في الوقيعة بين المسلمين وتدبير المؤامرات هو وابنته الشريرة (رفقة) وزوجها (عذرا) بميوله المتطرفة وسفره إلى إسرائيل، ولست أدري ما هو الجانب الذي أنسنه المؤلف وأمن عليه المخرج وصدقه الممثلون وعكسوه في شكل أداء احترافي، اللهم إذا كان هؤلاء يقصدون (أم هارون) في تصرفاتها مع أهل (الفريج) بشكل إنساني غاية في الشفافية والبراءة والأيمان العميق بالقيم الإسلامية، ونسوا تماما أنها أسلمت وتزوجت من مسلم وأنجبت ابنا مسلما أيضا، وبالتالي هى لا تتبع الطائفة اليهودية، ولا تنتمي لأفكارهم، كما أن هناك يهودا آخرين في المسلسل يتمسكون بأرضهم ووطنهم ولا يفكرون في مساندة الصهيونية في أرض فلسطين.
لقد لاحظت حراكا إلكترونيا سريعا، منذ بداية الحلقات الأولى لمسلسلي (أم هارون ومخرج 7) والتي لم تكن تفصح عن هويتها بعد، والغريب أن هكذا حراك يقول رواده أنه جابه الأفكار المسمومة التي يصدّرها المسلسلين، ودعا إلى مقاطعته، بما أنه يستخدم اللغة الدرامية، ويتكئ على المغالطات التاريخية، لإثارة التعاطف مع اليهود الذي يعودون إلى (أرضهم) أي (فلسطين) وفق سياق المسلسلين!، على رأس هذه الحملات (اتحرك) التي دعت إلى مقاطعة مسلسل (أم هارون)، واعتباره مروّجاً لإزالة الحاجز النفسي والعدائي لدى العرب تجاه (إسرائيل)، من خلال الدعوة إلى التعايش معها.
وهذا نوع من الافتراء على المسلسل، فلم يكن شيئا من هذا القبيل معكوسا على الإطلاق في لغة الحوار مع بدء حلقات المسلسل – كما أدعى هؤلاء المروجين – رغم أنه قالوا : ظهّرت أكثر فأكثر الرسائل التطبيعية والخادعة، خاصة في إخفاء أي ذكر لفلسطين، مقابل الاعتماد على الرواية الصهيونية في عودة الصهاينة إلى (إسرائيل)، وربما قد خدعوا إثر دخول الإسرائيليين مباشرةً على الخطّ، والتقطوا الضجّة المثارة حوله، وراحوا يشيدون في إعلامهم بالعمل، وكذلك فعل المتحدّث باسم الجيش الصهيوني أفيخاي أدرعي.
الأمر المؤكد أن تركيز الصحافة الإسرائيلية على مسلسلي “أم هارون” و”مخرج 7″، كان لها أثر سلبي على طريقة تناول رواد مواقع التواصل الاجتماعي، حيث اتضح من بنية هذا التركيز أنه اتسم بمعالجة “مِهنية” مدروسة، شملت التعريف بالبيئة التي ظهر فيها المسلسلان، وقدمت خلاصات تتعلق بالمجريات والمقولات والشخصيات المعروضة فيهما، وفق معايير قِيَمية تنسجم مع التوجهات الإسرائيلية الحالمة بالتطبيع الشامل مع العرب.
وفي إطار هذه التوجهات، شاعت في المواد الإسرائيلية المنشورة عن المسلسلين عملية الاقتباس من السيناريو والحوارات في كل منهما، واختيار العديد من الآراء والتعليقات والمواقف العربية التي برزت حولهما، ولم تجد هذه المواد حرجاً في طرح الأفكار المتعارضة بشأنهما بطريقة موظّفة للتحريض على ردود الفعل العربية المناهضة للخلفية التطبيعية التي راحت تدخل عبر بوابة الفن، لكن تلك المواد حرصت على تسويق فكرة مفادها أن “قبول إسرائيل في المنطقة”، كما يبدو من بعض مختاراتها، ليس نزوعاً فردياً، بل هو تيار جارف ترفده مواقف رسمية، وأن هناك احتمالاً كبيراً لتجسيد تلك الفكرة مستقبلاً بوقائع متنوعة.
وقد ساهمت التغطية الصحفية التي واكبت المسلسلين في توجيه الرأي العام العربي بطريقة أشبه بمن يقود قطيعا نحو أهدافه، ومنها تقرير مفاده أن “الناس في العالم العربي يحبون التعامل مع موضوعات ترتبط باليهود في المنطقة، في مصر وسوريا على وجه الخصوص، لكن تقرر في هذا (أم هارون) التعامل مع اليهود الكويتيين وعلاقاتهم مع جيرانهم المسلمين، وهو أمر لم يكن موجوداً في التلفزيونات العربية من قبل، وأن الممثلة الكويتية حياة الفهد، التي تعد نجمة في دول الخليج الفارسي، هى التي شاركت في المسلسل بدور أم هارون”.
وصنف التقرير قناة “mbc” السعودية التي كانت وراء إنتاج المسلسل، بأنها “تعدّ القناة الأكثر شعبية في العالم العربي، وتصنيفاتها قياسية، ومن المرجّح أن ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، المهتم بإقامة علاقة وثيقة بين السعودية وإسرائيل، يشير من خلال هذا المسلسل للعالم العربي إلى توجّه المملكة”، إنظرو معي إلى طريقة التلفيق ودس السم في العسل والتقول على ولي العهد السعودي بعبارات قريبة إلى التصديق من جانب رواد السوشيال ميديا.
وما يؤكد الأهداف اليهودية الخبيثة التي تتعلق بقشة إقامة علاقات طبيعية مع العرب، وذلك حسب ما قاله المستشرق الإسرائيلي البارز (يوني بن مناحيم)، من خلال مقال له بعنوان “المسلسل التلفزيوني الذي يثير العالم العربي”، والذي قال فيه “بدأ جميع معارضي التطبيع مع إسرائيل في العالم العربي بمهاجمة المسلسل في الشبكات الاجتماعية، لأنه يشجّع على التطبيع مع إسرائيل، ويتجاهل المعاناة التي تسببها للفلسطينيين، بينما كانت هناك أصوات أخرى دافعت عن المسلسل، قائلة إنها تشير إلى وجود يهود عرب أحبوا وطنهم وكانوا مخلصين له”.
أعجبني جدا رد كاتبا المسلسل، الأخوان البحرينيان (محمد وعلى عبد الحليم شمس)، والذي جاء مواكبا في توقيته لموجة استهجان وغضب واسعة عبر منصات التواصل الاجتماعي التى نددت بمثل هذه الأعمال التى تحمل في طياتها رسائل خبيثة تتسلل إلى بيت كل عربى، مطالبين الجمهور بمقاطعتها والتوقف عن مشاهدتها، حيث قالا: (إن المسلسل لا يحمل أى رسالة سياسية، وأن الناس تحدثوا وحكموا قبل أن يشاهدوا، والرسالة تتمحور حول تعامل المسلمين وطباعهم اللى ترتكز على المحبة وحسن النوايا والسلام مع غير المسلمين)، وأضاف كاتبا المسلسل: إن الشخصية الرئيسية في المسلسل (أم هارون) التى يحمل العمل الدرامى اسمها، مستوحاة بشكل كبير من قابلة (داية) يهودية حقيقية تدعى (أم جان) وصلت إلى البحرين من العراق في ثلاثينيات القرن الماضي، كما تم التنويه مع بث أولى حلقات المسلسل أن الشخصيات والأحداث من وحى الخيال.
وأشيد أيضا بدور مجموعة “إم بى سي” المنتجة للمسلسل في رفضها نبرة التخوين والتشكيك، موضحة أن رسالة المسلسل الرئيسية إنسانية، فهى ممرضة تعالج الناس بغض النظر عن أى اعتبارات أخرى، وأوضحت الشبكة أن العمل يركز على قيم التسامح والاعتدال والانفتاح وأن الشرق الأوسط كان يوما منطقة قبول للآخر قبل أن تسود تفسيرات منحرفة وصور نمطية للمنطقة من جانب المتشددين والمتطرفين على مدى العقود الأخيرة.
وفي النهاية لابد من التنويه إلى أن تناول الدراما الخليجية لهذا النوع من الموضوعات الجريئة لأول مرة، هو أمر جيد للغاية، وهو ما يعبر عن نوع من الانفتاح بالنسبة لهم، ومحاولة الخروج عن النمط التقليدي في الموضوعات الاجتماعية الصاخبة، كما يبدو ملحوظا أيضا أنها خرجت من الأماكن التقليدية لمواقع التصوير، وسافروا لأماكن تبدو حقيقية أو أقرب للواقع عبر دول أخرى لتكون المشاهد مختلفة للعين، ومن ثم أصبحت الدراما الخليجية الآن – من وجهة نظري الشخصية على الأقل – من أفضل الدرامات التي تقدم في المنطقة العربية، بل وتنافس نظيراتها في مصر وسوريا ولبنان والأردن وباقي دول المغرب العربي.