أنس طيارة .. ممثل يبلغ سن الرشد
كتبت سدرة محمد
يحتاج الممثلون إلى أجساد مرنة مطواعة معبرة، ويتحتم عليهم استخدام أجسادهم لعرض مواقف عديدة ومتنوعة، ولهذا يجب على الممثلين أن يلموا بالعواطف والمواقف والدوافع الإنسانية حتى يتمكنوا من القيام بأدوارهم جيدا، وأن يكونوا قادرين على التعبير عن هذه العناصر حتى يتم للمشاهدين فهمهم، ويعد التركيز شيئًا مهما للممثل، فيجب أن يكون الممثل قادرا على زج نفسه في مواقف خيالية لحجب جميع المؤثرات الخارجية عنه، موهما نفسه بأنه لا يمثل بل يقوم بدور حقيقي، وحتى يتسنى له فعل ذلك، يجب عليه التركيز والاستماع للممثلين الآخرين المشاركين في العمل والاستجابة لما يقولون بشكل جيد، ويتطلب ذلك منه أيضًا التركيز على كلّ لحظة بدلاً من ملاحظة الحدث وانتظار ما سينتج عنه.
وضيفا هذا الأسبوع الفنان الشاب الوسيم (أنس طيارة) في باب (نجوم على الطريق) هو واحد من المعنيين بشكل أساسي بالتركيز في أدائه، كما لاحظت ذلك من خلال متابعتي له في مختلف الأدوار، فهو قادر بالفعل على الزج بنفسه في مواقف خيالية بحيث يوهمك بأنه لا يمثل بل يقوم بدور حقيقيى، كما أنه واحد من الذين يعزفون على أوتار مختلفة إلى حد أن بلغت مهاراته وإمكاناته الإبداعية، أخيراً، سن الرشد، إذ يتحرر هذا الممثل الشاب من مساحة الظهور في أعماله ليصنع حضوره الخاص عبر منهجية واضحة في الأداء وتكتيك بناء شخصيته من الداخل إلى الخارج والعكس هو الصحيح أيضا.
ولعل تعامله مع الشخصيات التي يجسدها ليس بالمهمة اليسيرة، إذ تحفل شخصياته بالتناقضات التي تتكون وتتراكم داخله كجزء من ردود أفعاله على صدمات متتالية تكون قد أصابته بالضرورة كما يبدو لنا من أقرب الناس إليه، هكذا تم من خلال تجسيده لدوره الذي برز فيه عام 2019 في مسلسل (عندما تشيخ الذئاب)، الذي قدم للمشاهد العربي من خلاله دور المحامي الشاب (عزمي) الذي هو نفسه يخوض صراعاً مركباً على ثلاثة من المستويات، الأول داخلي ينبع من طبيعته (الجوانية)، والثاني عبارة عن صراع شخصي ينبع من علاقته مع محيطه الأساسي وبالتحديد مثلث عائلته المتناقض بالسلوك وبالفعل والغايات (الأم الجليلة – الأب رباح – الخال جبران)، وفي المستوى الثالث تتسع دائرة الصراعات الشخصية التي يخوضها (عزمي) مع تعدد منابع الخصومة في حياته، سواء مع خوضه في صراع درامي مع أفراد جدد في حياته الشخصية (الشيخ عبد الجليل – سندس)، أو مع مؤسسات المجتمع والسياسة والدين التي شكلت رؤوس المثلث الأكبر التي تدور حياته في فلكها طوال الأحداث.
أنس طيارة من مواليد 20 أكتوبر1992 بمحافظة حمص بسوريا، لكنه ولد وترعرع في مدينة القامشلي، حيث كان أبوه من (قطينة) وأمه من (القامشلي)، تخرج من معهد الفنون المسرحية، وقد درس المسرح بسبب عشقه للتمثيل منذ أن كان تميذا صغيرا بالمدرسة، و بدأ التمثيل سنة 2013 في أثناء دراسته بالمعهد، حيث قدم دورا صغيرا في مسلسل (ياسمين عتيق)، بطولة الفنان الكبير والقدير(غسان مسعود و الفنانة سلاف فواخرجي)، إخراج المثنى صبح، تأليف رضوان شبلي، وكان عملا تاريخيا مهما، حيث يدور المسلسل حول التاريخ الشامي العتيق التراثي، ثم قدم ثاني عمل له بعد تخرجه من المعهد في مسلسل (في ظروف غامضة) سنة 2015، والمسلسل كان بطولة النجمة نسرين طافش، والفنان سلوم حداد، وميلاد يوسف، من إخراج المثنى صبح أيضا، وتأليف وقصة وسيناريو وحوار فادي قوشقجي.
ولأن مسلسل (في ظروف غامضة) هو مسلسل درامي يميل نحو الغموض، فقد حصل (أنس طيارة) على شهرة كبيرة بعد هذا الدور رغم صغر مساحته، باعتباره أهم الأدوار الذي شارك بها، ومن بعده يعتبر دوره في مسلسل (الواق واق) الذي عرض في رمضان 2018، يمثل نقلة كبيرة في حياته الفنية، وقد كان المسلسل بطولة الفنان باسم ياخور والفنانة شكران مرتجي والفنان رشيد عساف، والمسلسل تأليف ممدوح حمادة وإخراج الليث حجو، وهو يميل إلى اللون الكوميدي.
من بعد مسلسلات (ياسمين عتيق، في ظروف غامضة، العراب، العاشق: صراع الجواري، زوال، نبتدي منين الحكاية 2016 ، شوق 2017، مسلسل الواق واق سنة )2018 بدأ دور (أنس طيارة) محسوسا ومؤثرا بين عمالقة التمثيل، من خلال القدرة على الخلق والإبداع وكاريزما الحضور، وتعتبر كل تلك المهارات جزءا من مجموعة صفات لابد أن تتوافر في الممثل الجيد، أما كيف عكس (أنس طيارة) امتلاكه لهما وقدرته على توظيفهما في علاقته مع الشخصية، وعلاقة الشخصية مع الشخصيات الأخرى، وعلاقة الشخصية مع المشاهد، فيمكن أن تلمس ذلك من خلال قدرته على أن يكون محسوساً بين الممثلين الآخرين، كما بدا ذلك من خلال مسلسله الأخير (أولاد آدم)، حيث بدت شخصيته مؤثرة في سكونه وحركته، في كلامه وصمته وهدوئه وصبره على رفيقه (غسان) المسكون بالشر المطلق.
وبالطبع ذلك الحضور المؤثر والمحسوس لأنس طيارة الممثل، هو نتيجة لتفاعله الخلّاق مع شبكة درامية معقدة يعمل معها مؤلفة من نص الكاتب ورؤية المخرج ومن يقف خلفه من فنيين، إضافة إلى التأثير المتبادل مع الممثلين الذين يقف إلى جانبهم، ولكن إبداع (طيارة) الشخصي كممثل، وممارسته الذاتية، ستبقى الأساس في إيصال روح الشخصية إلى المشاهد، إذ يفترض به أن يُظهر ما يكمن خلف النص المكتوب (السيناريو)، وما هو خلف النص المرئي (الإخراج وفريقه)، إضافة إلى نصه الخاص الذي يعكس فهمه لدوره وطبيعة شخصيته.
لذلك لم يكن أداء أنس طيارة (برانيا) يقف أمام الكاميرا ليردد كلمات حفظها من حواره وينفذ تعليمات المخرج، وإنما كان يقوم بمحاكاة شخصياته في (سلاسل ذهب، غفوة القلوب، مسافة أمان) والتوحد مع روح تلك الشخصيات التي جسدها، انطلاقاً من وعيه للشخصية، وذلك ظهر بأفضل أحواله في مشاهده الصامتة تحديدا، فلم يكن فهم الممثل الشاب لصمت الشخصية بأنه مجرد إطباق للفم وعدم الكلام، وأن غضبه مجرد فتح عينيه على اتساعهما والتحديق بمن يقف أمامه، وأن سكون جسده الاحتجاجي مجرد تجميد لأطرافه وأن الحزن مجرد اختناق في الكلام وارتعاش عضلة في الوجه وأن الصراخ مجرد ارتفاع بالصوت، وإنما كان أنس طيارة يقوم بإدارة جسده في إطار عملية إبداعية متكاملة من شأنها نقل الشحنة الانفعالية المطلوبة إلى المشاهد بوضوح وبدقة.
وفي كل مرة كانت إدارة الجسد الواعية التي قام بها (أنس) لتجسيد هذا الفعل الصامت كما في شخصية (وسام) في مسلسل (أولاد آدم) لاتعني تحريك عضلات وجهه وجسده على نحو مؤثر، وإنما اللعب بتلك العضلات على طريقة قائد الأوركسترا الذي يستطيع بحركة يده السريعة الواعية إدارة العشرات من عازفي الآلات الموسيقية الإيقاعية والوترية وآلات نفخ ومفاتيح لتحقيق ترتيب واع من النغمات الموسيقية في الجملة اللحنية الواحدة، على نحو تدرك كنسيج واحد منسجم، وتحقق مع كل تغيير في حركات يده تأثيراً وإحساساً مختلفاً، على أثره لابد أن يحدث من انقلاب مع (غسان) خلال أحداث جديدة شهدها المسلسل تباعا، لكن ذلك لم يوفر تسجيل ردود فعل مختلفة حول ما قدمه الدور من تباين في وجهات النظر بين متقبل للفكرة أو الطرح الذي وضعه الكاتب رامي كوسا، وبين نظرة اللبنانيين للدور، وارتفاع وتيرة الأذى كما شاهدنا من خلال الحلقات.
ومن الصعب على المشاهد التغاضي عن أداء (طيارة) اللافت مؤخرا في ()أولاد آدم، فعلى قصر مساحة الدور إلا أن عيناه تقدحان تمرّداً وإصراراً وعزيمة، ويملك مقوّمات تمكّنه بسلاسة من التمثيل، بعيداً عن التصنّع والمبالغة، فيظهر على الشاشة مزيجًا من الحنان والغضب والانهزام والإرادة والغرام والقسوة والعصامية والخير والشرّ، وربما استطاع أن يثبت كل ذلك في أن يقف إلى جانب حبيبته (روان) التي جسدتها (لين غرة) في مسلسل (مسافة أمان)، وكسب ثقة والدتها (سراب) التي لعبت دورها (كاريس بشار) بذكاء ورقي، فكان الحبيب الوفي والملاذ الآمن في هذا المسلسل، وفي (سلاسل دهب) كان (عبود) الشاب الطائش العاشق لـ (رائدة) أو (زينة بارافي) التي هربت من منزل أهلها لعدم موافقة أمها بالارتباط به، إلا أنه لم يكن على قدر من الوعي للتعامل بطريقة لبقة مع الحالة، وفضل هذه المرة التعامل بالقوّة في أداء يتسم بالعذوبة في ذات الوقت.
خلال الأعوام السّابقة حظي (طيارة) بفرص مهمة مع ألمع صنّاع الدراما السّورية، لكن لأسباب عدة كان الحظ العاثر رفيق تلك الأعمال نذكر منها: (العراب، نبتدي منين الحكاية، الواق واق)، لكن في كل عمل يتنقل أنس طيارة بشخصياته بثقة كبيرة وواضحة، واستطاع الفنان السوري الشاب أن يثبت للجمهور أن مكانته ستكون محفوظة وحصته بالتأكيد كبيرة في المواسم الدرّامية المقبلة، ونحن من جانبا في بوابة (شهريار النجوم) نتمنى له التوفيق والنجاح، خاصة أننا نراه ممثلا من طراز رفيع يستحق العمل في ملاحم درامية مختلفة تليق بموهبته الكبيرة التي تؤكد وصوله إلى سن الرشد والتمكن في الأداء.