كتبت : سدرة محمد
لست أدرى ما كل تلك الضجة المثارة حول مسلسل (أم هارون)، الذي يحكي قصة طبيبة يهودية في أربعينيات القرن الماضي، والتحديات التي واجهت أسرتها والجالية اليهودية في دول الخليج، ولماذا استاء الجمهور ممن وصفوه بأنه “خطأ تاريخي لا يغتفر”، إذ تداول مغردون مقطعا من المسلسل يتحدث عن تأسيس دولة إسرائيل عقب إنهاء الانتداب البريطاني على “أرض إسرائيل” عوضا عن فلسطين، هكذا تقول أحداث القصة التى كتبها محمد شمس، مع العلم أننا لا نستطيع تغيير التاريخ ومسح حقبة معينة بسبب مشاعرنا حيال عدو غاصب للأرض المقدسة وقتها أو الآن، وأنا مع من ذهبوا إلى ضرورة التمييز بين الصهيونية والدين اليهودي، كما جاءت الوقائع التي رصدها المسلسل وعبر عنها بصدق رافضا في طياته لعملية التطبيع جملة وتفصيلا، بدليل استنكار كل أبناء الفريج لذهاب “عذرا” زوج ابنة الحاخام “داوود” لإسرائيل رغم عودته معترضا على الممارسات الصهيونية.
تابعت بشغف حلقات المسلسل، ولم أري فيه ما يثير كل تلك الضجة حوله، اللهم إلا إن كان البعض تعامل معه بمبدأ “لاتقربوا الصلاة”، بمعني أن من أطلق حملة الاستنكار والشجب للمسلسل لم يألو جهد في الصبر على المشاهدة للحلقات الثلاثين، بل تعامل على عجل بمنطق العارف ببوطن الأمور مسبقا، ومن ثم لاداعي لاستكمال المشاهدة، وتلك آفة كثير من نقاد الدرما ويسبقهم في ذلك الطابور الخامس من المشاهدين البلهاء، حيث يقوم الواحد منهم بمشاهدة مالايزيد عن خمس حلقات ويقوم بسن قلمه ويرشقه كنصل حاد في باطن العمل طاعنا صناعه ومشككا في وطنيتهم ومسئوليتهم أمام ضمائرهم المستترة، دون وازع من ضميره المخاطب والمتكلم في آن واحد.
المسلسل عبارة عن عمل فني جاد جدا، وتحدث بواقعية وشفافية مطلقة عن أجوال اليهود في الكويت في أربعينيات القرن الماضي، ورصد كثير من حالات البغض والكراهية لمواقف بعينها بين أبناء الأديان الثلاثة في تلك الحقبة الزمنية، خاصة فيما يتعلق بالممارسات الصيونية تجاه سكان فلسطين، ولكن تبقي لى ملاحظة سلبية في تجسيد رجل الدين المسيحي بطريقة ساذجة وتدعو للاستغراب في فجاجتها التبشيرية، وعلى أية حال جاء “أم هارون” على غرار المسلسل المصري “حارة اليهود” من حيث الأداء والإخراج بحرفية عالية جدا من جانب مخرج “حارة اليهود” نفسه الواعي إلى سحرية الصورة “محمد العدل”، ولعل الجمل الحوارية البسيطة ساهمت إلى حد كبير في جودة الإخراج الذي برع في التوثيق التاريخي عن طريق استخدام الديكور والإضاءة، فضلا عن توظيف أغاني تبعث على الشجن في اجترار ماضي الفترة الزمنية تزامنا مع أحداث اتسمت بالسخونة وتفجر الصراعات بين أبناء (الفريج).
ظنى أن الفنانة القدير”حياة الفهد” برعت في أداء شخصية “أم هارون”على نحو احترافي يشهد لها بالكفاءة، حيث ظلت طوال الوقت ملتزمة بهدوء أعصابها ووزانت بطريقة بارعة بين مختلف أنواع الصراع رغم معاناتها الكبيرة حتى الحلقة 14 قبل إعلان اسم ابنها “هارون” وضمه إلى صدرها بعد عناء وجفاء السنوات التي عملت من خلالها على تربية ومداوة وحل مشاكل أجيال مختلفة من أبناء قاطني حي “الفريج”، وبرع معها في الأداء كل من أحمد الجسمي في دور “أبو سعيد”، محمد جابر في دور “الملا عبد السلام”، المبدع السعودي عبد المحسن النمر في تجسيد شخصية “الحاخام داود”، سعاد على في دور “هند”، فؤاد على في دور “جبر”، محمد العلوي في دور “محمد”، فاطمة الصفي في دور “مريم”، النجمة السعودية الشابة إلهام على في دور “علياء”، روان مهدي في دور “راحيل” وأخيرا وليس آخر ألاء الهندي في دور زنوبة الذي أدته بعذوبة غير معهودة في الدراما الخليجية.
وقد توفقت أمام مشهد الاعتراف بإبن (أم هارون) بقدر من التأمل باعتباره الـ “ماستر سين” الحلقات والذي جاء على النحو التالي: بعد عزمت (أم هارون) على ترك ديرة (الفريج) بسبب الغبن الذي وقع عليها من جانب (أبو سعيد) الذي انتزع ابنها منها واستولى على أموال أخيه الذي قتله أهلها من اليهود بسبب زواجه منها، اجتمعت كبار أهل الديرة في منزلها في محاولة لإثنائها عن المغادرة، فهى التي ربت وداوت وعملت الكثير لأهل ديرتها طوال سنوات عمرها الذي أفنته عليهم.
يتحدث في البداية الحاخام (دواود) قائلا: أظن أم هارون أنت تدرين السبب في جيتنا عندك، ويضيف أبو سعيد : عسى ما شر يا أم هارون ، شي اللي صاير عشان تسوين هالسوالف؟ .. هانت عليك العشرة تتركين الديرة مرة واحدة ، ايش لون طاوعت قلبك وانت الحين تقولين ما أبيكم.
أما الملا عبد السلام (أبو محمد) فيقول: يا أم هارون كلنا حنا وحريمنا .. بناتنا وعيالنا .. صبينانا المجنون منهم والعاقل كلن نمشي في ضلك، وإذا راح ضلك عنا بنضيع أنت الأم وأنت الأخت وانت عزوتنا كلنا.
الحاخام داود : أنا أقول يا أم هارون يمكن السالفة إن البارحة فيه شيئ كاتم عليك وقعدت الصبح ونسيتي خلاص.. هه؟
أم هارون بتنهيدة قادمة من الأعماق: لا ياداود كان زين أنساها .. أنا حاسة بضيق .. حاسة بقهر.. حاسة إني ضايعة .. كسرني الزمن وهدتني الذكريات المرة.
الملا عبد السلام أبو محمد: يعني انتي لما روحتي عن الفريج يوم وليلة تدرين شنو اللي صار في الفريج: انعفس فوق حيدر .. كلهم يدورون أم هارون .. نحبك .. والله نحبك.
أم هارون: ما قصرت يا عبد السلام .. جيتكم على عيني وراسي وعشرتكم ماتهون على .. بس أنا حاسة إني ضايعة .. مولاقيه روحي .. أني حاسة إني غريبة حتى في بيتي قولولي ايش أسوي.
يجتمع رجال ونساء الديرة في محاولة لإيجاد حل يمكن أن يثني قرار أم هارون عن مغادرة الديرة، ويبدأ أبو محمد الكلام قائلا: مثل ماروحنا ردينا والخافي أعظم!! .. الحرمة أكيد فيها شيئ كاين بس حنا ماندري عنه.
هند زوجة أبو سعيد: لا لا ما من عوايدها .. في العادة قدر نعود عندها ونبسط قلبها.. معقوله ما أحد قادر يردها عن رأيها.
أبو سعيد يرفع يده مهدئا من روع الآخرين: الصبر يا جماعة .. الصبر شوي، فترد إحدى النساء من المنقبات: الله يهداك يا أبو سعيد شو نصبر وهى روحتها على البر، فيرد أبو سعيد في مفاجأة مذهلة: أنا مقصودي إن فيه واحد .. واحد ماكو غيره هو اللي يقدر يرد أم هارون عن اللي تيبي تسويه.
داود : هو من هى الواحد .. اتحكى يا أبو سعيد: من هو الواحد خليه يردها ونخلص.
أبو سعيد : يعود بالحديث للماضي قائلا : هيك السنين استخربت إن أخوي خليفة تزوج أم هارون، وكان هذا الزواج في السر، لأن إخوان أم هارون وقومها كانوا من اليهود .. من اليهود المتشددين اللي كانوا يرفضون أي واحد يخالفهم في الرأي .. المهم استخبروا وماطاع أخوى وقف لهم، قامو حرقوا بيت أم هارون باللي فيه .. مات أخوي خليفة بالحريقة، وكانت ديتهم يذبحوا سمحة (أم هارون) ورايلها، لكن سمحة الله سلمها.
يعلق بعض الجلوس بالترحم على خليفة : الله يرحمه ويغمده ويجعل مثواه الجنة.
هند (أم سعيد) تنبه الجلوس موجهة كلامها لأبو سعيد : بس فيه شيئ ناقصة وانت قلت : واحد يقدر يردها.
أبو سعيد: سمحة سلمكم الله كان عندها طفل رضيع ، وكان نايم هو وأبوه في الحجرة اللي شبت فيها الحريقة ، لكن الله سبحانه وتعالى نجاه وتم هذا الولد عندي.
يهب (جبر) من مكانه في ذهول قائلا : عمي وايش قاعد تقول .. شالحكي، يعني أبوي خليفة كان متزوج حرمة غير أمي؟، ثم يرفع صوته صارخا في وجه عمه: ليش تطالعني هيش رد على؟
يقوم أبو سعيد من مكانه في مواجهة جبر: إذا عايز أرد على سؤالك اللي طول عمري ريثت إني أجاوبك عليه.. ثم يستطرد في حديثه لجبر مفجرا المفاجأة المذهلة: يوم سالت عن أبوك وعن غيبة أمك، جبر يا وليدي: انت هارون ولد سمحة فيصاب الجلوس جميعا بالوجوم فتقول المنقبة: الله أكبر وايشلون يحرمون الأم من ضناها ويحرمون الولد من أبوه.
يرد أبو سعيد: مثل ما قلت لكم : ماكانوا يتركونه ولا بيرحمونه خاصة لو سامحة خافت منهم لا يذبحون ولدها، والحين الشخص الوحيد اللي يقدر يرد أم هارون هو ولدها هارون.
يدخل هارون على أمه منفعلا: لو تظنين إني أسامحك تكونين غلطانة انت حرمتي نفسك مني وأنا هو قدامك، فترد عليه وهى في حالة بكاء شديد: غصب عليا يوباه .. والله غصب على إنك تبعد عني.. العمر ضاع مو بكيفي، أنا ما أبي من شئ لأني ما أستحق أريد تقول ياما بس، فيرد جبر: ليش بدي أقولك ياماه ليش، فترجوه قائلة : مرة واحدة بس، فيرد عليها جبر في قسوة: ماني قايلها لأنك ما تستاهلين تسمعينها، وتنادي عليه تعالي: هاورن.. هارون ، فيرد وهو على الباب: أنا ماني هارون ..هارون احترق في الحريق.. أنا جبر اللي جطيته جطة الكلب عند عمه وانتي عايشة، ثم يغلق الباب مغادرا وتاركا أم هارون تبكي على حالها البائس الذي لم تختاره يوما.