حكايتى مع ديزنى (23) .. الدرّة
بقلم المخرج المسرحي الكبير : عصام السيد
ظللت متردداً لشهور فى ترك العمل فى الدوبلاج بعد تفاقم المشاكل بينى و بين مكتب ديزنى بالقاهرة ، فلقد كان من الصعب التخلى عن النجاح الذى حققته فى هذا المجال ، و التخلى عن صداقتى لسمير حبيب . إلى جانب أننى استطعت العمل بشروطى فى معظم الأحيان ، فعلاقتى بالمكتب تراوحت بين المد و الجزر بعد أن قل حجم احتكاكى بمسئوليه كثيرا ، فلقد اتجهت ديزنى الى زيادة العمل بالمسلسلات لتغطية إرسال القناة التى إفتتحتها و الموجهة للشرق الاوسط ، و حتى الأفلام بدأت تتوزع ما بين إكو ساوند و بين استوديوهات أخرى نتاج لعرض الأفلام على الاستوديوهات و اختيار الأرخص سعراً .
و لم تضمن إكو ساوند لنفسها فى بورصة هبوط الأسعار إلا الأجزاء الثانية من أفلام قدمتها من قبل مثل (بوكاهنتس ، والأسد الملك ، و حكاية لعبة) ، و حتى الأفلام الجديدة التى حازت عليها إكو ساوند اعتذرت عن بعضها مثل (مائة مرقش و مرقش – البشرى، و طرزان) ، تمهيداً منى للانسحاب تماما .
أما المسلسلات فبرغم أنه لم تكن لى علاقة مباشرة بها ، إلا أننى كنت مشاهداً منتظماً لها على قناة ديزنى – بصحبة ابنى – و قد لاحظت تدهوراً سريعاً فى مستواها الفنى ، بعد بداية قوية كانت من صنع إكو ساوند و بعض الاستوديوهات الأخرى و بدأت لهجات أخرى غير العامية المصرية تظهر فى بعض المسلسلات ، و بعد قليل أصبحت السمة العامة لتلك المسلسلات إنخفاض مستوى الجودة ، و التغاضى عن شروط ديزنى الأولى بعدم تقديم ممثل واحد لعدة شخصيات أو تمثيل الكبار لأدوار الأطفال أو الاهتمام الشديد بالتزامن بين المنطوق و المرأى . ربما كان هذا لاحتياج القناة لعدد ضخم من المسلسلات لتغطية ساعات الإرسال ، و لذا دخلت شركات متعددة لمجال الدوبلاج بعضها لا تملك استوديوهات ، و أكثرها لا تملك الخبرة الفنية و الإدارية ، بل تم انشاء شركات فى عجالة لنيل جزء من كعكة ديزنى .
و أدى هذا التكالب و أيضا ( الاسترخاص ) إلى كوارث ، فكم سمعنا عن إعادة دبلجة مسلسلات و أفلام بالكامل لسوء المستوى ، و اضطرار ديزنى لتغيير بعض الشركات بعد التعامل معها ، منها على سبيل المثال شركة إنتاج ظهرت فجأة فى القاهرة لشخص لا يحمل الجنسية المصرية و نال حصة كبيرة من مسلسلات ديزنى ، و لكن نتيجة الدوبلاج كانت غير مُرضية على الإطلاق مما اضطر ديزنى اإى رفضها و إعادة الدوبلاج مع شركة أخرى قبلت العمل بأجر ضئيل بعد خصم ما تم صرفه للشركة الأولى ، التى تمت تصفيتها و اختفى صاحبها فجأة كما ظهر فجأة ، كما انتشرت شائعات – لم أتأكد من صحتها – عن وجود ( لوبى ) معين يتم تقسيم كعكة ديزنى عليه ، و لكنى لم أهتم بمعرفة التفاصيل أو التحقق من صحتها ، فقد كان اهتمامى منصبا على اختيار لحظة الاعتذار التى تضمن لى إنسحابا لا يؤدى لخسارة صديقى و شريك النجاح سمير حبيب.
و ذات صباح فاجأت الصحف العالم كله بصورة طفل يحتمى خلف والده بينما رصاص الاحتلال الصهيونى يتطاير حولهما ، و صورة أخرى لنفس الطفل و جسده ممدد على الأرض شهيداً بينما صرخات والده تكاد تنطق بها الصورة الصماء . و صارت تلك الصور أيقونة زادت اشتعال الإنتفاضة الفلسطينية الثانية عام 2000 .
فى الحقيقة إنه قبل هذه الحادثة بسنة تقريبا ، كان طريق الاتفاق بين الفلسطينين و الاحتلال الصهيونى قد وصل الى طريق مسدود بعد أن حاول الاحتلال – بمساعدة الولايات المتحدة – فرض حلول تخالف قرارات الشرعية الدولية باستبعاد الانسحاب لحدود يونيو 67 و عودة اللاجئين ، واستمرار الاحتلال في سياسة الاغتيالات والاعتقالات والاجتياحات لمناطق السلطة الفلسطينية ورفض الإفراج عن الأسرى الفلسطينيين ، بالإضافة إلى استمرار بناء المستوطنات ، وفي ظل هذا الغليان ، قام رئيس وزراء الكيان الصهيونى إريل شارون باقتحام المسجد الاقصى وتجول في ساحاته ، وقال أن الحرم القدسي سيبقى منطقة إسرائيلية مما أثار استفزاز المصلين الفلسطينيين فاندلعت المواجهات بين المصليين وجنود الاحتلال.
و هكذا اندلعت الانتفاضة الثانية بعد الأولى بحوالى عشر سنوات ، و بسبب صورة الدرة – الطفل الشهيد – التى ظهرت فى اليوم الثانى للانتفاضة اندلعت المظاهرات فى جميع البلاد العربية – حتى دول الخليج التى لم تعرف المظاهرات من قبل – و بدأت دعاوى مقاطعة المنتجات الإسرائيلية و الأمريكية تتعالى و بشدة فى كل المنطقة العربية ، بل دبت الحياة فجأة فى مكتب المقاطعة العربية بسوريا بعد سنوات طويلة من الموات.
لم تكن ديزنى بعيدة عن هذه الأحداث ، فبرغم محاولاتها الدائمة أن تُظهر أن لا علاقة لها بالسياسة ، إلا أن عدة أقوال تناثرت – فى ذلك الوقت – منها ماثبُت صحته فيما بعد ، و منها ما ينتمى الى نظرية المؤامرة ، و منها ما يدخل فى باب “صدق أو لا تصدق ” . و أول الأقوال و أهمها أن معرضاً أقامته ديزنى فى مدينتها بأمريكا عبارة عن غرف و كل غرفة تمثل دولة من الدول ، و إذا بفلسطين تختفى عمدا من المعرض لصالح وجود دولة الاحتلال الصهيونى ، و هكذا طالت ديزنى دعاوى المقاطعة ، التى أدت الى إغلاق سلسلة المحلات التى كانت تسمى ( ديزنى كورنر ) التى كانت تبيع منتجات ديزنى كالدمى و الملابس و الألعاب و غيرها . و لم يحافظ على مبيعاتها من الأفلام إلا اعتذارها عن واقعة المعرض فيما بعد.
أما أصحاب نظرية المؤامرة فقد اتهموا ديزنى بأنها دخلت الشرق الأوسط لأهداف سياسية استعمارية ، و دللوا على هذا بارتباطها فى بدايتها بإحدى شركات المياه الغازية – التى شاركت ديزنى فى قناتها الأولى – فقد كان لتلك الشركة سمعة سياسية سيئة بسبب اتهامها بأنها ساهمت فى تدبير إنقلابات عسكرية يمينة ضد حكومات وطنية يسارية فى بعض دول أمريكا اللاتينية ، و تنوعت مساهمة تلك الشركة ما بين استعمالها كغطاء لعملاء المخابرات المركزية من أجل دخول تلك البلاد ، أو بتوفير تمويل لتلك الانقابلات بعيدا عن عيون الكونجرس الامريكى .
و لم تقف الاتهامات لديزنى عند هذا الحد ، بل ادعى البعض أن مسئول قسم الأصوات العالمية الذى حل محل تود بليك كان ضابطا سابقا بوكالة المخابرات المركزية الامريكية ، و أنه تولى المنصب من اجل مهمة محددة فى الدول العربية . و لا أعلم ماهى المهمة ، و لا كيف وصلت إليهم معلومات عنها ، و لا كيف تيقنوا منها لدرجة ترديدها !!!
و على جانب آخر كان المجتمع الفنى و الثقافى فى القاهرة يغلى و تم عقد اجتماع بمسرح البالون – أكبر مسارح القاهرة – ضم العديد من الفنانين و الأدباء و المثقفين لاتخاذ موقف مناصر للانتفاضة ، و فى اليوم التالى كنا نقف احتجاجا أمام وزارة الخارجية المصرية مطالبين بطرد السفير الاسرائيلى ، و أمام عدسات الاعلام تم حرق العلم الاسرائيلى ، و بعد تلك الوقفة ظهرت عدة أعمال فنية تناصر الانتفاضة و تطالب بنصرة الفلسطينيين.
كانت مشاعر الغضب و الحزن أقوى من الجميع ، و خاصة من لديهم أطفال فى عمر محمد الدرة ، فلقد كان المشهد موجعا و مؤلما ، و قررت أن على أن أنسحب تماما من العمل مع ديزنى ، فهذا أقل ما يمكن أن أقوم به . و كعادتى لم أعلن الأسباب و لم أتاجر بها ، حتى سمير حبيب لم أعلمه بالأسباب ، فقط قلت إننى مشغول ، و أن الأجور لم تعد تساوى المجهود و لا الوقت المبذول و الأجدى أن أوفر الوقت لأعمالى الأخرى.
و تعجبت لنفسى كيف أننى انتظرت طويلاً كى أجد سبباً قوياً أعلنه و أقنع به صديقى و الآن يشاء القدر أن أنسحب دون إبداء الأسباب – برغم أن انسحابى هذا أفقدنى مشروعا آخر مع سمير كنت سأقوم فيه بإخراج مسلسل تليفزيونى – و لكنى آثرت ألا أتكلم فلست أحب إدعاء البطولة ، كما لا أحب فرض موقفى على الآخرين ، فلكل منا اختياراته ، أما أنا فيكفينى أن يكون ضميرى مستريحاً ، بالضبط كما حدث لى قبلها بسنتين فى رحلتى الى كندا مع فرقة الفنان الكبير سعيد صالح ، عندما قال لى ضابط الجوازات الكندى اننى أشبه ابن عمه ، فسألته هل هو مصرى ؟ فقال إنه إسرائيلى !! و برغم أننا كنا فى غرفة مغلقة و ليس هناك من يشهد الحوار ، إلا أننى رفضت تشبيهى بشخص يغتصب أرضا ، فقرر عدم ختم جواز السفر و لم أهتم ، و لولا تدخل أصحاب الشركة التى استضافت عروضنا هناك لعدت على الطائرة التالية إلى القاهرة.
و اليوم أسأل نفسى : هل كنت سأتخذ نفس الموقف لو لم تكن هناك مشاكل فى العمل؟ ، و هل لو عادت الأيام ، سأسلك نفس السلوك ؟ هل لو كنت أعلم أن ديزنى ستعتذر هل كنت سأبقى؟ ، و لماذا قررت أن أذكر الآن السبب الحقيقى لانسحابى بعد كل هذه السنوات ؟.