صرخة أبو زهرة
بقلم: محمود حسونة
تعلمنا صغاراً أن احترام الكبار وتقديرهم وتوقيرهم واجب، وأنه حق لهم يفرض علينا الكثير من الالتزامات والسلوكيات التي ينبغي اتباعها عند لقائهم والتي تصل إلى تقبيل اليد أو الجبين حسب درجة علاقتنا بهم.
احترام الكبير فرضه ديننا وكل دين سماوي وفرضته قيم مجتمعنا وأخلاقه، وهو ليس أبداً من باب العطف بل من باب الامتنان والتقدير لما قدمه من عطاء وجهد وحب غير محدود سواء داخل البيت أو في مكان العمل أو في المواقف الحياتية، وهو عطاء لا يقتصر على الأبناء وأفراد الأسرة والعائلة وزملاء العمل ولكنه قد يمتد إلى من لا توجد أي علاقة معه.
كبارنا قدموا وأعطوا وعلى نهجهم تسير الأجيال اللاحقة، وجيل يسلم آخر ليس المسؤولية فقط ولكن أيضا الموروث القيمي والاخلاقي والعادات التي ينبغي الحفاظ عليها والتقاليد الواجب التمسك بها، وذلك حتى يظل المجتمع متماسكا وغنياً بأخلاق أبنائه وحكمة كباره، ويظل العطاء متبادلاً بين الأجيال المختلفة.
ولهذا لم تكن مستغربة حالة الغضب المجتمعي من تطاول فنانتين “مجهولتين” أو “معلومتين” على الفنان الكبير عبد الرحمن أبو زهرة عقب إعلانه مروره بحالة من الاكتئاب دفعته للتفكير في الاعتزال، بسبب المعاملة التي يلقاها من قبل صناع الأعمال الفنية على حد قوله.
الفنان الكبير عبر عن انزعاجه من مشاركته تحت مسمى “ضيف شرف” بأدوار لا تليق بتاريخه مقسماً على عدم تقديم هذه النوعية مرة أخرى.
حق عبد الرحمن أبو زهرة أن يعبر عن غضبه، وحقه أن يصعب عليه حاله وهو الذي قدم ٣٥٠ عملاً فنياً كل واحد منها يعد شهادة تميز له أداءً وإبداعاً، ومن حقه على الجمهور وزملائه الفنانين أن نستمع إليه ونشاركه ونتفاعل مع همه، وجميعنا يدرك أنه مجرد تفاعل لن يقدم ولن يؤخر في الامر شيئاً، فالوضع الذي يعاني منه أبو زهرة عانى منه قبله جميع من سبقوه إلى الكبر وكثير من فنانينا الراحلين كانوا نجوماً يملأون الدنيا إبداعاً وبهجة وفرحاً وحباً، ولكنهم تعرضوا للكثير من المعاناة والنكران في الشيخوخة.
بعض فنانينا انسحب من عالم الأضواء في هدوء وبلا ضجيج، وبعضهم أعلن اعتزاله، وبعضهم أقعدته ظروف صحية.
المنسحبون في الماضي والحاضر لكل منهم دوافعه، فالبعض انسحب احتراماً لتاريخه بعد أن اصبح المعروض عليه لا يتوافق مع عطائه ولا مع قناعاته ولا مع قيمه ومبادئه، والبعض انسحب بعد أن خف الطلب عليه، والنتيجة أن الأسباب تختلف والانسحابات واحدة.
ما يتعرض له عبد الرحمن أبو زهرة ليس مفاجئاً ولا غريباً، ولكن صرخته موجعة له قبل أن توجع غيره، خصوصاً أن البعض اعتبرها لا تعبر عن غضب بقدر ما هي توسل للعمل من فنان لا يسمح له تاريخه ولا محبيه أن يتوسل شيئاً من أحد أياً كانت مكانته أو قيمته.
صرخة أبو زهرة تعبير عن واقع قديم متجدد، ولن تحرك ساكناً ولن تغير واقعاً، فلن نجد يهرول الكتاب إلى الكتابة خصيصاً لفنانينا الكبار، ولن يسعى المخرجون لحجز مساحات في أعمالهم تكرم المخضرمين وتستفيد من خبراتهم، ولن يفرض المنتجون وجودهم في الأعمال التي يمولونها، ولكن ستظل القافلة الفنية تسير في ذات الطريق ولن تبذل أي جهة أي جهد للبحث عن طرق بديلة تستوعب الكبار مع الشباب والواعدين الجدد.
جميع المهن فيها تقاعد، ووحدها المهن الإبداعية لا تعرف سناً له، والفن قد يكون أهمها، ولكنه في ذات الوقت صناعة تبحث عن الرواج وتسعى لإنتاج يجذب المشاهدين، وتقديم سلعة تجد من يقبل عليها، وفِي عرف أصحاب القرار في الفن المصري والعربي أن الرواج لا يتحقق إلا بالعناصر الشابة، ولا خلاف على أن الطبيعي أن يتصدر الشباب الأفيشات والمساحات وتسند لهم الأدوار الفاعلة، وهذا لا يعني عدم وجود أدوار للكبار، فهي موجودة ولكن بمساحة محدودة، باستثناء كبار سيظلون كباراً برصيدهم وعطائهم وتجددهم، والفنان الكبير عادل إمام خير مثال على ذلك، وهناك أيضاً كبار نشتاق إليهم إذا غابوا عنا مثل يحيى الفخراني، وغيرهما الكثير عبر تاريخنا الفني الممتد.
نعلم أن من يجسدون أدوار كبار السن في أعمالنا عددهم محدود، ونرى البعض منهم في أعمال عديدة، ومن كبارنا الذين استمر عطاؤهم حتى الرمق الأخير الراحل حسن حسني، وهو ما يدل على أن لهم مكانهم، الذي لا ينبغي أن ينتقص من مكانتهم في قلوب محبيهم ولا يثير غضبهم من أوضاع ليست وليدة اليوم ولكنها ستستمر أيضاً في المستقبل.
لم يكن فناننا الكبير عبد الرحمن أبو زهرة على حق في غضبته التي أراها قد نالت منه ولَم ولن تضيف إليه شيئاً بصرف النظر عما قالته الفنانتين “المعلومتين المجهولتين”.
كل ما حدث كان زوبعة في فنجان، ولَم يكن الأمر يستحق هذا الجدل الذي لن يغير في الواقع شيئاً ولن ينتصر لعبد الرحمن أبو زهرة سوى بالتعاطف الكلامي لا أكثر ولا أقل.
mahmoudhassouna2020@gmail.com