إرهابي في عيون زبيدة
بقلم : محمد شمروخ
من المعروف أنه عندما يناقش عمل فنى قضية تاريخية فليس لزاما عليه نقل الأحداث التى جرت حرفيا وإلا فما الفرق بين العمل الفنى في تناول الحدث وبين العمل التأريخى الأكاديميي.
فعندما يتناول أديب قصة واقعية تاريخية فلابد أن ينفذ من وراء الحدث الظاهر للكشف عما لا نراه مباشرة وله مطلق الخيال مادام قد قدم عمله على أنه عمل أدبي خالص، فلا يمكن اتهام الأديب بالتزوبر ولا المخرج بالتزييف ولا السيناريو بالمخادع إذ أن العقد “غير المكتوب” بين المبدع والمتلقى يؤكد على عدم إصدار أية أحكام باتة ونهائية تكون على سند من الواقع.
ولذلك عندما تجلس لاستعادة ذكرياتك مع مشاهد فيلم في “بيتنا رجل” فاطرد إذن من ذهنك فكرة بدأ كثيرون يرددونها بعد أن خفت تاثير الرومانسية من أجواء الفيلم مع تكرار مشاهداته مرات ومرات.
فالفكرة الأساسية للفيلم هو كيف ينبت الحب في ظل الخوف وتحت وطأة المطاردة في بيت أسرة مصرية عادية وضعتها الأقدار في طريق فتى وطنى متحمس دفعه حماسه لقتل سياسي بارز من أعوان الإنجليز الجاثمين على صدر البلاد في ذلك الحين، وركز الفيلم مع أداء فريق العمل على تلك الفكرة أكثر من الحدث نفسه الذي بدا كخلفية مثيرة لقصة الحب الحالمة هذه والتى جعلتنا نتعاطف مع إبراهيم، بل وتعتبره بطلا مع أنه لم يقدم مبررات كافية لإقدامه على جريمة القتل تلك ولا رأينا أحدا دافع عن القتيل ولا حاول تبرئته من تهمة العمالة للإنجليز.
والفيلم مأخوذ عن قصة واقعية بطلها الشاب المصري حسين توفيق، وكان حسين يكره الإنجليز وانضم إلى جمعية سرية لمقاومة الاحتلال الذي اتخذ وضعا شرعيا في مصر إثر توقيع معاهدة ١٩٣٦، حيث صارت بموجبها بريطانيا صديقة لمصر وليست دولة غاصبة فلم بعد رجلها الأول في مصر هو المعتمد البريطاني بتحكماته البغيضة على عهد اللورد كرومر ولا مندوب سام متعجرف كالجنرال اللمبي، ولكن صار سفير بريطانيا مثل أي سفير آخر من الناحية البروتوكولية، ولكن بمعاهدة صداقة مصرية – بريطانية، ورغم أن السفير سير مايلز لامبسون قد تجرأ على مصر بما لم يفعله لا المتعمد ولا المندوب السامي فقد حاصر السفير قصر عابدين مقر الحكم الرسمي وفيه ملك مصر وأحاطه بالدبابات البريطانية في صبيحة يوم ٤ فبراير ١٩٤٢ ليجبره على تكليف زعيم الأغلبية مصطفى باشا النحاس بتشكيل الوزارة، وكان متولى الاتصال بين الملك والسفارة البريطانية والنحاس أمين عثمان، وهو واحد من أولاد الذوات تلقى تعليمه في أرقى المدارس البريطانية في مصر ثم سافر ليدرس في جامعات أوروبا وعاد ليرسي دعائم جمعة الصداقة المصرية البريطانية، خاصة أنه متزوج من سيدة بريطانية وتولى هذا الباشا منصب وزير المالية بعد أول تعديل وزاري في وزارة النحاس تلك التى جاءت على أسنة حراب الإنجليز وبأمر من السفير البريطاني الذي أراد طمأنة الجاليات الأجنبية في مصر لاسيما الإنجليزية.
وحتى بعد إقالة الوزارة ظل نجم أمين باشا عثمان لامعا وهو لا يفتأ يؤكد في جمعيته على علاقة الزواج الكاثوليكي بين البلدين فحتى لو تركت إنجلترا مصر فيجب على مصر ألا تتركها فلن يقع الطلاق أبد.
وكان هذا التصريح سبب اتخاذ الجمعية الوطنية السرية قرارها باغتيال أمين عثمان وقام اليوزباشي أنور السادات الضابط بالجيش المصري بتدريب مجموعة من الشباب بالجمعية على استخدام السلاح ووقع الاختيار على الفتى المتحمس حسين توفيق الذي كان يهوى ممارسة قتل العساكر الإنجليز لكي ينفذ العملية ونفذها بالفعل في مدخل العمارة التى يقع بها مكتب أمين عثمان بشارع عبد الخالق ثروت بوسط القاهرة.
وتمكن حسين من الهروب ولجا لأسرة مصرية اختبأ عندها بعض الوقت، وهنا لعبت الفكرة في رأس إحسان عبد القدوس ليخرج لنا رائعته “في بيتنا رجل” والتى تحولت إلى فيلم صار من كلاسيكيات السينما المصرية ومازالت لديه إمكانية إعادة شمل الأسرة حول شاشة التليفزيون.
ولكن في الفيلم كان القتيل عبد الرحيم باشا شكرى رئيس الوزراء الذي قتله البطل إبراهيم والذي أحب فتاة اسمها نوال في الأسرة التى آوته، ورغم أن أحداث القضية الحقيقية سارت في اتجاه آخر يكاد يكون كوميديا لو تتبعه إحسان عبد القدوس في الفيلم فقد تلقى القبض على حسين توفيق الحقيقي لم يتخذ غلوة في يد المحقق الذكي الذي كسر تعنت حسين في التحقيقات، وألمح إلى الصحافة بأن حسين يمكن أن يكون أقدم على قتل أمين باشا بسبب ارتياب حسين في علاقة بين القتيل والدته وهو ما لم يكن له أي أساس من الصحة، ولكنه حول حسين توفيق إلى شبه جهاز تسجيل وهو يدلى باعترافات تفصيلية كاشفا كل التفصيل ومرشدا عن كل شركائه في التنظيم إلى درجة أثارت دهشة الرئيس الراحل أنور السادات وهو يسجلها في كتابه البحث عن الذات ناقلا لك نفس شعور الدهشة.
يعنى في النهاية كان إبراهيم الفتى الحالم الرومانسي مختلفا شكلا وموضوعا عن حسين توفيق الذي استغل الوطنيون حماسه في قتل العساكر الإنجليز ليتخلصوا من أحد أهم أعوان الاحتلال، ولكن صورة الفتى الرومانسي التى أفلح الفيلم في تثبيتها مع صورة عمر الشريف أمام العيون الزبيدية التى زينت وجه أجمل مخلوقات الكوكب الأرضي، ومن أجل عيون زبيدة نقف مع الفن ضد الواقع فنحن لسنا في مدرج قسم الدراسات التاريخية بكلية الآداب ولا نناقش في ندوة بمقر الجمعية التاريخية هل كان إبراهيم مجرما أم بطلا أم إرهابيا أو هل كان أمين باشا يستحق القتل على خيانته أم أنه كان مجرد صديق أراد توثيق عقد زواج كاثوليكي بين مصر ذات الطبيعة المسلمة السنية أو المسيحية الأرثوذكسية وبين بريطانيا التى قام كيان كنيستها في كانتبري على عكس كل ما هو كاثوليكي فصار الزواج باطلا من حيث المبدأ.
وجاءت ٣ رصاصات من مسدس حسين توفيق لتطفئ الكلوب والفرح باظ فهذا هو الواقع إذا أردت الاستمتاع بالتاريخ بعيدا عن الفن.