ليلة القبض على فريد شوقي بأمر الرئيس عبدالناصر
* لم يستطع وحش الشاشة أن ينظر إلى عيني الزعيم الخالد
* كاد الجندي الإنجليزي يكتشف معدات التصوير لولا تدخل القدر!
* السوريون يهتفون باسم فريد شوقي وجمال عبدالناصر، وطلاب جامعة القاهرة يرددون يعيش فريد شوقي
* الرئيس يطلب من فريد شوقي أن يلتفت للطلبة ولا يبالي بالبروتوكولات
* الرئيس احتفظ بنسخه من فيلم “بورسعيد” فى منزله
أحمد السماحي
أدرك جمال عبدالناصر قيمة الفن، واستخدمه للوصول إلى المواطنين وتمرير قراراته السياسية، ورفع الروح المعنوية والانتماء إلى الدولة وحاكمها، فعندما أراد رفع أسهم الجيش المصري لدى المواطنين، اقترح على الفنان الكوميدي الراحل “إسماعيل ياسين” نظرا لحب الشعب له، القيام بسلسلة من الأفلام الكوميدية عن الجيش بدأها أسطورة الكوميديا عام 1955، بفيلم “إسماعيل ياسين فى الجيش”، ثم “الأسطول”، “البوليس”، “بوليس حربي”، وأخيرا “إسماعيل ياسين فى دمشق” أثناء الوحدة بين مصر وسوريا.
ولم يكن “إسماعيل ياسين” هو الفنان الوحيد الذى طلب منه عبدالناصر تقديم أفلام وطنية، نفس الأمر حدث مع الفنان “فريد شوقي” أثناء العدوان الثلاثي على مصر، وتعالوا بنا نترك ملك الترسو ووحش الشاشة يحكي لنا بنفسه مع حدث مع الزعيم “جمال عبدالناصر” كما جاء فى مذكراته التى نشرتها الناقدة “إيريس نظمي” عام 1977، يقول فريد شوقي: ذات ليلة مظلمة مفزعة من ليالي العدوان 1956 كانت القاهرة مختفية فى الظلام، وصفارات الإنذار تعوى، والشوارع صامتة، وكل القلوب ترتعد خوفا وانتظارا لهجوم مباغت من طائرات العدوان الثلاثي، كانت الساعة تقترب من منتصف الليل، وأنا أحتضن بناتي الخائفات وبجانبي جلست زوجتي هدى سلطان، وفجأة دق الباب دقات عنيفة ودقت معه قلوبنا بنفس الاضطراب، وعلى ضوء الشموع الخافت رأينا عددا من رجال البوليس الحربي بأغطية رؤوسهم الحمراء المميزة أنهم يسألون عني، أستاذ فريد اتفضل معانا عايزينك حالا فى مجلس قيادة الثورة.
وبكت بناتي من شدة الذعر، ونفس الاضطراب والارتباك رأيته على وجه زوجتي هدى، لكن جنود الشرطة العسكرية حاولوا أن يهدئوا من روعنا عندما سألتهم أنا ما عملتش حاجة عايزين ايه؟ قالوا (متخافش مفيش حاجة اطمئن يا أستاذ فريد)، وتركت زوجتي وبناتي وأنا اتصور أنه الوداع الأخير، وركبت مع رجال الشرطة العسكرية سيارة “جيب” انطلقت وسط الشوارع المظلمة، وعقلي غير قادر على التركيز، ثم وقفت السيارة العسكرية أخيرا أمام مبني لم أتبين ملامحه جيدا من شدة الظلام، ثم أدخلوني إلى مكتب وفتح باب ثم باب ثان، وبعد أن أجتزت الباب الثالث وقفت مذهولا، فقد وجدت أمامي الرئيس جمال عبدالناصر شخصيا.. عيناه مثل عيني الصقر.. حادتان.. قويتان.. فيهما بريق عجيب، أتحدى أي إنسان لو كان استطاع أن يثبت ويركز نظراته فى عينيه المؤثرتين النفاذتين، أنا الممثل الذى أجيد التحكم فى نظراتي لم أقدر على النظر فى عينيه أكثر من ثوان قليلة، ومددت يدي أصافحه، وقال وهو يجلس أمام مكتبه: أنا بعت لك يا فريد.
قلت: تحت أمرك يا فندم.
قال: إن لكم رسالة يا أهل الفن لا تقل أبدا عن رسالتنا نحن رجال الثورة، أنت شايف العدوان اللي حصل ضد مصر؟ أنا عايزك تعمل فيلم فورا عن الحرب والمقاومة فى بورسعيد، ثم ابتسم وأضاف: أنا اخترتك أنت بالذات لهذا الفيلم الوطني لأني أعلم أنك البطل الشعبي المحبوب الذى يحب الناس أن يشاهدوه، أريد أن أعرض هذا الفيلم على العالم كله لأكسب به الرأي العام العالمي، وتحت أمرك الجيش والطيران.
ثم نظر الرئيس عبدالناصر إلى المشير عبدالحكيم عامر قائلا: أعطي أمر علشان يوفروا كل شيئ لفريد حتى يستعد، كانت الساعة تقترب من الثانية صباحا عندما خرجت من المبنى الذى التقيت فيه بالرئيس، وأكتشفت أنه مبنى المؤتمر الإسلامي.
ولم أعد إلى بيتي رغم أنى كنت أريد أن أبعث الإطمئنان إلى قلوب بناتي وزوجتي، ولكنني ذهبت أبحث عن المخرجين “نيازي مصطفى، وعز الدين ذوالفقار” وكاتبي السيناريو المعروفين “السيد بدير، وعلى الزرقاني”، فالعدوان مستمر، والوقت يجري بسرعة، والفيلم لابد أن يكون جاهزا فى أقصر وأقرب وقت حتى يمكن عرضه خارج مصر لكسب الرأي العام العالمي، كان هدفنا أن نصور العدوان الثلاثي والطائرات المعادية وهى تهاجم وتقصف الأماكن المزدحمة بالسكان المدنيين، وعمليات المقاومة الباسلة، وبطولة أهالي بورسعيد، هذه المدينة الشجاعة التى أصبح الفيلم يحمل اسمها، كان هدفنا أيضا أن نصور انسحاب القوات المعتدية وتراجعها أمام الصمود البورسعيدي، لكن كيف الوصول إلى بورسعيد؟ وبسرعة قلنا أنا و”عز الدين ذوالفقار” عن طريق بحيرة المنزلة، هذا هو الحل الوحيد.
وارتدينا ملابس الصيادين، ووضعنا الكاميرا والمعدات الأخرى داخل “مشنات” السمك، وغطيناها بقطع من القماش، واجتزنا بحيرة المنزلة حتى وصلنا إلى نقطة التفتيش، وعشنا لحظات عصيبة جدا عندما تقدم الجندي الإنجليزي ليفتشنا…، ماذا سيحدث لو أكتشفوا هذه الكاميرا التى اخفيناها داخل “مشنة” السمك؟!
وارتعد جسدي كله عندما مد الجندي الإنجليزي “سونكي” البندقية التى يحملها نحو “المشنة” التى ترقد فى أعماقها معدات التصوير، لكن شخصا ذكيا حاول أن يشتت انتباه وتركيز الجندي الإنجليزي فناداه فى تلك اللحظة: سير .. سير، فتطلع إليه الجندي صاحب “السونكي” ومررنا بسلام ونحن لا نصدق أن الجندي الإنجليزي لم يكتشف أن هؤلاء الصيادين ليسوا إلا مجموعة من الفنانيين جاءوا إلى بورسعيد لكي يسجلوا ويصنعوا فيلما سينمائيا يفضح ذلك العدوان الغادر ويكشف عن بطولة أبناء بورسعيد الشجعان، واكتشفنا فيما بعد أن الشخص الذى نادى على الجندي الإنجليزي، كان من المخابرات المصرية يتابع ويراقب تحركاتنا.
وانتهينا من تصوير فيلم “بورسعيد” بسرعة قياسية، ونجحنا فى تسجيل انسحاب القوات المعتدية، وعرض الفيلم فى معظم بلاد العالم وحقق نجاحا خرافيا خاصة فى مدينة دمشق وجاء السوريون من القرى البعيدة لكي يشاهدوا الفيلم الذى يعبر عن المقاومة المصرية، وهتفوا باسمي واسم “جمال عبدالناصر” بعد نهاية الفيلم، ونفس النجاح الساحق حققه فى لبنان، وشكرني الزعيم الراحل “جمال عبدالناصر” واحتفظ بنسخة من الفيلم فى بيته.
وبسبب هذا الفيلم حصلت على وسام الفنون من الرئيس “جمال عبدالناصر” فى جامعة القاهرة، أنا والسيدة “فاتن حمامه”، وأذكر موقف طريف حدث أثناء تسلمي الوسام، حيث كان “عبدالناصر” يقف شامخا يسلم الجوائز وفي عينيه ذلك البريق العجيب وعلى شفتيه ابتسامه ودود، وإلى جانبه يقف الدكتور “عبدالقادر حاتم” وزير الإرشاد، بينما إمتلأت القاعة بكبار الكتاب والأدباء وأساتذة الجامعات، فضلا عن حوالي ستة آلاف طالب وطالبة، وحانت اللحظة التى أترقبها وسمعت اسمي، فوقفت متجها نحو الزعيم، ولم أستطع النظر فى عينيه، ومد يده ليصافحني وتسلمت منه الوسام، وفى هذه اللحظة الجياشة بالمشاعر حدث شيئ لم أكن أتوقعه، لقد فوجئت بهولاء الالآف يصفقون ويهتفون “يعيش فريد شوقي يعيش … يعيش”.
فكرت أن أتطلع إليهم وأشكرهم على هذه التحية الحماسية غير المنتظرة، لكنني لم أجرؤ على ذلك ، فكيف أعطى ظهري للرئيس، لابد أن أحترم البروتوكول خاصة عندما أكون واقفا أمام رئيس الجمهورية، واستمر التصفيق والهتاف، وأصبحت فى منتهى الحرج، فاحترام الجمهور واجب، واحترام الرئيس واجب أيضا، هل اتجاهل هؤلاء الذين يهتفون بإسمي، وكيف اعطى ظهري للرئيس؟ وفوجئت بالرئيس يقول لي ويدي ما تزال فى يده وجسمي انحنى أمامه تقديرا وعرفانا بالجميل، سمعته يقول لي: “يا فريد حيي جمهورك بص لجمهورك”، قلت: هامسا بس يا فندم، لكنه قال : معلش بص لهم.
والتفت للألوف الذين يصفقون داخل قاعة الإحتفالات الكبرى لأحييهم وأشكرهم على هذه الحفاوة الشديدة، وسمعت الزعيم “جمال عبدالناصر” يقول للدكتور حاتم بيحبوه الشعب بيحبه.