سليمان نجيب .. ابن الباشوات الذي فضح الفساد السياسي
* دفن “الدادة” التى ربته مع والدته ورفض انتقاد الجميع له
* بعد تخرجه من كلية الحقوق عمل موظفا بوزارة الأوقاف، ثم قنصلاً لمصر في اسطنبول
* منحه الملك “فاروق” البكوية، وكان أول مصري يرأس دار الأوبرا الملكية
* كان يرى أن الزواج قيد، وهو يعشق حياة الحرية، ويرى أن كل النساء “نكديات
* ورث الأدب من والده الذي كتب لأم كلثوم “الليل أهو طال، وعرف الجرح ميعاده”
* “مذكرات عربجي” كتبها عام 1922 وتعتبر مرجعا للكتابة الساخرة والنقد الاجتماعي
كتب : أحمد السماحي
“يا خالق الدم، دم تقيل، ودم خفيف، إرحم عبيدك من اللي دمهم يا لطيف”، هذه الكلمات اللطيفة تغنى بها الفنان “سليمان نجيب” مع “محمد فوزي ونعيمة عاكف” في واحد من أمتع وأجمل “تريوهات” السينما المصرية بعنوان “فين الجمال”، هذا الـ” تريو” يؤكد خفة دم “سليمان نجيب”، فهو فى الواقع كان من أصحاب الروح الخفيفة، هذه الصفة التي خلقت بينه وبين السيدة “أم كلثوم” حالة من الصداقة القوية والمتميزة، حيث كان يتصل بها كل ليلة ليخبرها بآخر نكتة.
هو والدادة
رغم تربيته ونشأته الارستقراطية وثقافته العالية وإجادته لأكثر من لغة، إلا أنه كان دائما ينحاز للغلابة، وينتصر لهم سواء فى أعماله الفنية أو حياته الشخصية، عندما رحلت “الدادة” التى ربته، رفضت العائلة دفنها مع والدته، لإنهم يرونها “خادمه”، حتى لو كانت هى التى ربت “سليمان”، وفى هذه الفترة كان مسافرا فى الخارج، وعندما اتصلوا به يخبرونه بوفاة “الداده” وعرف مشكلة الدفن قال لهم “تدفن مع أمي طبعا هو في بيك وباشا في الموت كلها نومه واحدة” .. عجايب عليكم ياناس عجايب!”.
حتى فى عمله الذي سنتناوله اليوم “مذكرات عربجي” شن كثير من الاتهامات على طبقة الأغنياء التي ينتمي إليها، بدءا من احتقارهم للفقراء وممارستهم أفعالا منكرة بعلاقات تصل للشذوذ ووعود لا يحفظونها بحجة “أن لذة الهوى في التنقل”.
قنصل مصر فى سطنبول
بعد تخرجه من كلية الحقوق، عمل موظفا بوزارة الأوقاف، ثم قنصلاً لمصر في اسطنبول، ثم عاد إلى القاهرة، والتحق بوزارة العدل وعين سكرتيرا فيها، شغل منصب سكرتير لمجلس الوزراء في آخر وزارة قبل الثورة “وزارة على باشا ماهر”، وبعد رحيل والدته تفرغ للفن، حيث كانت تعارض امتهانه هذه المهنة، واحتراما لرغبتها، وخوفه من “زعلها” لم يمتهن الفن إلا بعد رحيلها، وقدم العديد من الأدوار الباسمة التى كان يتمتع فيها بخفة ظل عالية، وفى كل هذه الأدوار قدمها بشياكة وحرفية عالية دون ابتذال أو إيحاءات، من أهم أفلامه “ليلى بنت الأغنياء، الآنسة ماما، لعبة الست، غزل البنات، الآنسة حنفي” وغيرها الكثير.
أول رئيس مصري لدار الأوبرا
في عام 1938 عين رئيسا لدار الأوبرا الملكية، وكان أول مصري يعين في هذا المنصب، حيث إن إدارة الأوبرا ورئاستها كانت مقتصرة على الموظفين الأجانب وبالتحديد الإنجليز، وقد شهدت الأوبرا في عهده تقدما وتألقا كبيرا، حيث أدارها بحكمة واقتدار، ومنحه الملك “فاروق” درجة البكوية، ولم يشغله شيء عن الفن طوال حياته فرفض الزواج، !حيث كان يرى أن الزواج قيد!، وهو يعشق حياة الحرية، ويرى أن كل النساء “نكديات” و هو خفيف الظل و يحب المرح.
وراثة الأدب
ولد “سليمان نجيب” في 21 يونيو سنة 1892 لأسرة عريقة فوالده هو الأديب الكبير “مصطفى نجيب” الأديب والشاعر الذي كتب لأم كلثوم “الليل أهو طال وعرف الجرح ميعاده”، والذي غرس فيه حب الفن والثقافة، وحرص على تعليمه وتثقيفه بشكل جيد، كما عرفه على الفنون والمسرح فنشأ ميالًا لها منذ صغره فأحب التمثيل بالفطرة، أما خاله فهو “أحمد زيور باشا” أحد رؤساء وزراء مصر السابقين.
الكشكول
كأغلب مثقفي عصره بدأ “سليمان نجيب” حياته صحفيا حيث كان يكتب بعض المقالات في مجلة “الكشكول” الأدبية تحت عنوان “مذكرات عربجي” منتقدا بعض الأوضاع السياسية إبان ثورة 1919، وصدرت “مذكرات عربجي” عام 1922 لتصبح بعد ذلك محل خلاف حول من كتبها، حيث أن “الأسطى حنفي أبو محمود” هو اسم مستعار وليس اسم كاتبها الحقيقي، حتى اعترف الفنان “سليمان نجيب” بأنه كاتبها الأصلي، وكذلك مجموعة من الأدباء فى مقدمتهم “فكري أباظة”.
مذكرات عربجي
هذا الأسبوع لن نتحدث عن الفنان “سليمان نجيب” وأهميته فى الفن وأعماله السينمائية والمسرحية التى كتبها أو التى قام بترجمتها أو مثلها، ولكننا سنتوقف عند الأديب الساخر” سليمان نجيب” فمن يقرأ “مذكرات عربجي” ستنتابه الدهشة لرشاقة أسلوبه وجماله، ولم تهدف المذكرات الصادره منذ حوالي مئة عام في مصر إلى التسلية والترفيه كما يوحي اسمها للوهلة الأولى، بل كان مرجعا للكتابة الساخرة والنقد الاجتماعي، حيث ترصد المذكرات بسخرية لاذعة مواقف المتلونين والانتهازيين الذين ظهروا أعقاب ثورة 1919، لينقضوا عليها بادعائهم الثورية وركوبهم لموجة الثورة، فيعريهم ويجلدهم بكرباج السخرية وهو بهذا يرصد على طريقته جابناً هاماً من مجتمعات “ما بعد الثورة”، ولحظات “التحول الكبرى” في تاريخ هذه المجتمعات، وذلك من خلال “حوذي” ورث المهنة عن أبيه وراح بخفة ظل وأسلوب رشيق يسجل ذكرياته وأحاديثه مع الركاب عن السياسة والحياة الاجتماعية في ستة عشر مذكرة وخاتمة يجمع بينها خيط رقيق ينتمي إلى روح مصر وذاكرتها في ذلك العصر.
يبدأ الكتاب بمقدمة من الفنان “سليمان نجيب” يطلب من الأديب “فكري أباظة” أن يكتب له مقدمة كتابه “مذكرات عربجي” فيقول:
إلى فكري أباظة
سيدي الأستاذ النابغة
محسوبك كاتب هذا ـ الأسطى حنفي أبومحمود ـ من كان له الشرف أن يقلك في عربته مرارا إما منفردا أو مع زمرة من إخوانك ومحبيك، يرجوك ويتوسل إليك أن تكتب كلمة صغيرة يضعها فى مقدمة مذكراته التى ظن بعضهم إنها جديرة بالنشر، وأنا لا أرجو ولا أتوسل إلا لأني من المعجبين بقلمك وأدبك وأنك باعتراف الكل الكاتب الذي تقرأ كتاباته كل الأفراد بلهف وشغف واستصرخ ديمقراطيتك أن تحن على حوذيك بكلمة تجعل لهذه المذكرات قيمة، إنك كريم يا أستاذ طالما جدت علي بضعف ما أستحقه فى “التوصيلة” لأن نظرك البعيد يرى أن بجانب أكل البهايم، أكل العيال، ومن كان من أخلاقه الكرم والبحبحة فلا أظن أن يضن على حوذيه القديم بما يطلبه.
أبقاك الله وجعلك ظلا لأمثالي المساكين الغلابة وأنا يا سيدي عبدك المطيع المخلص.
حنفي أبو محمود
سليمان نجيب
18 رمضان 1341
………………………………………
من فكري أباظة
رد عليه الأستاذ “فكري أباظة” برسالة مليئة بخفة الروح والفكاهة قائلا:
عزيزي الأسطى حنفي
أشكرك كل الشكر على حسن ظنك بي وما كان اﻷﻣﺮ ﻳﺤﺘﺎج إلى اﻟﻄﻠﺐ، كان يكفي أن تأمر فنجيب لأن لك علينا أفضالا لن ننساها، لأنك لست حوذيا فقط بل أنت فيلسوف، والفلسفة مبجلة فى حد ذاتها برفع النظر عن حيثية المتصفين بها، حقا إني لأكتب بعواطفي، ولا أتكلف ولا أتصنع، فدعني أهنئك من صميم فؤادي، ولو كان كرباجك كقلمك لفاخرنا بك أعظم الأسطوات فى جميع القارات.
تتبعت كلماتك وكلما قرأت واحدة استفزني الشغف بأسلوبها إلى انتظار الأخرى على أحر من الجمر، فرأيت خفة الروح تنساب بين السطور انسيابا ورشاقة العبارات تتدفق تدفقا، فلما أخذتني الغيرة من ذلك الابتكار والتفنن وآسيت نفسي قائلا: إن الأسطى حنفي لم يأت بشيئ من عنده، لأن هذه “نفثات” الأنفاس بلا جدال، وهو مشغول “بالكر” نهارا وليلا، و”بالشد” صباحا ومساء، ومن كانت هذه أدواته وحواشيه فمن يستطع أن يماشيه؟! .
“يمينا” يا أسطى لست أحابيك ولا أداجيك، إنما أقرر الواقع، لقد “لذعت” بكرباجك العظيم ظهور المتهتكين والمتهتكات، المتحذلقين والمتحذلقات، وقديما كان الكرباج أداة التهذيب والتأديب، ولكن كرباج العهد الغابر كان يسيل الدم، ولا يجرح النفس، أما كرباجك أنت فلا يسيل الدماء ولكن يجرح النفوس، ونحن إنما نريد معالجة الأرواح لا الأبدان، فشكرا لك يا طبيب النفوس، لا تفكر كثيرا في الأزمة يا أسطى ولا تطمع وما دام علفك وعلف أولادك ومواشيك موجودا فاحمد الله، وما دمت فيلسوفا فليكن جيبك فاضيا كقلبك، ألا تعلم أن من تصدى لتهذيب الجمهور وجب أن يدوسه الجمهور، انظر يمينك وشمالك بسكوت وطبق النطرية تجدها صحيحة، “فسر” فى طريقك هادئا ولا تجمد فى موقفك وأسمعنا طرقعة كرباجك فقد اختفى صوته من زمن بعيد، ولكن حذار أن تدفع أو “تجمح” فتكون التوصيلة “للواحات”!.
أي عزيزى الأسطى : إن أمة حوذيتها مثلك لجديرة بأن تركض ركضا، و”تربع” إلى مطامعها لا تلوي على شيئ فى الطريق، إنى فى غاية الشوق إلى كتابك، فهيا وحضر الملازم بسرعة فينتفع الجمهور، وأنا فى إنتظارك فلا تتأخر علي
فكري أباظة المحامي
حاشيه : طيه اللي في القسمة أرجو قبوله فى الطبع
فكري
وصلني المبلغ قدها وقدود يا سي “فكري” مش جايب الكرم من بره والعرق دساس يا أستاذ !
محسوبك حنفي
بعد ذلك تبدأ المذكرات تتوالي فيقول في المذكرة الأولى:
لم يكن الأدب أو صنعة الكتابة قاصرة يوما ما على طبقة دون غيرها، فلا تظن أيها القارئ أو يتسرب إلى ذهنك الشريف ساعة ترى إمضائي تحت هذه المقالة أن أديبا تعدى الحد فتنكر تحت نمرة موهومة، ورخصة غير موجودة، فتبوأ مقعد سياسة البهائم، وابتدأ يروي للقراء ما مر عليه وهو جالس على كرسيه مفتوح العين لما هو أمامه، منصتاً بأذنه إلى مايدور داخل العربة، مشاهدا في توصيلاته المختلفة غرائب الغرائز ومتباين الأخلاق، صحيح أني نشات في وسط كله عربات وخيول “بلدي ومسكوفي”وجولا اسمع فيه إلا طرقعة الكرابيج وإصلاح “الحداوي” ولكن ذلك لم يمنعني أن أنشأ ميالاً إلى الأدب والكتابة والمطالعة وقراءة الأخبار السياسية، فلا أنسى أن أبتاع مع شعير البهائم وبرسيمها جرائد المساء، بل أكثر من ذلك أيها القارئ، طالما فاتني في كثير من الأوقات زباين سقع لانشغالي بالسياسة والأدب في الموقف، بينما رفاقي عيونهم متطلعة تصطاد الزبون من آخر الشارع.
والأدهى من ذالك أنني كثيراً ما كنت أهم بالمناقشة مع بعض الزبائن أيام الاضطرابات والإضرابات، تلك الأيام كنا نحن العربجية نسمع فيها كل ساعة رأيا على اختلاف المبادئ والنزاعات، لولا خوفي أولاً من عمال قلم المرور، ورذالة سحب الرخصة، والنتائج التي تجرها على رأس مسكين مثلي من “تفويت وغيره” وثانيًا اعتقالي ومحاكمتي وسجني ولا من شاف ولامن دري.
نهايته، كان حكم الوسط على قاسيا فقد أُجبرت لأسباب لالزوم لذكرها أن أخلف والدي رحمه الله في الانتفاع بعرباته العديدة وامتطاء إحداها، كان ذلك منذ عشر سنين، أي قبل الحرب أو “لحماية” على الأصح، وقد تمكنت من طريق مهنتي أن أطلع على أسرار كثيرة منها المضحك ومنها المبكي، بل لقد شاهدت من الروايات التي تمثل كل يوم أمامنا ماهو حقيقي، ليس للوهم أو الخيال أثر فيه، ومحادثات “تزانيق وخلافه” كنت مجبرًا على سماعها.
نقد لاذع فى المذكرات
قدم المؤلف نقدا لاذعا لحالة الفرقة بين التيارات المتواجدة على الساحة السياسية بعد فشل مصر في انتزاع استقلالها بمؤتمر الصلح بباريس، وإصدار بريطانيا تصريح فبراير 1922 من طرف واحد تنهي فيه حمايتها على مصر لتصبح دولة مستقلة ذات سيادة، لكنها احتفظت بحق تأمين مواصلات إمبراطوريتها، وحقها في الدفاع عنها ضد أي اعتداء أو تدخل أجنبي، وحماية المصالح الأجنبية والأقليات فيها، وإبقاء الوضع بالسودان على ما هو عليه.
تسبب التصريح البريطاني في انقسام الأحزاب السياسية، ففي حين اعتبره حزب الأحرار الدستوريين برئاسة “عدلي يكن باشا” أساسا طيبا للاستقلال، وأعلنت الحكومة برئاسة عبدالخالق ثروت تأييدها وشكلت لجنة لوضع الدستور، أكد حزبا الوفد والوطني أنه أكبر نكبة على البلاد، ووصفا لجنة إعداد الدستور بـ”تجمع الأشقياء”.
وقدم سليمان نجيب صورة كاريكاتورية للمتحولين سياسيا الذين يحاولون مسك العصا من المنتصف، مثل “أحمد بك الشيخ” الذي عرف الظهور على صفحات الجرائد بكلام لا يسمن ولا يغني من جوع، فابتدأ حياته السياسية بـ لا رئيس “رئيس الوزراء” إلا “سعد زغلول”، ثم تحول قليلاً إلى “عدلي فوق الجميع”، ثم صاح بعدها بـ”لا حياة إلا ثروت”، منتهجا مبدأ “لا رئيس إلا ما تقتضيه الأحوال”.
وأكمل الفنان الصورة بقصة طريفة لـ”أحمد بك” المعروف إعلاميا بأنه “سعدي صميم “مؤيد لسعد زغلول” فاستوقفه وكان ساهما حائرا فلما ركب الحنطور قال للسائق “انطلق على بيت سعد باشا “بيت الأمة”، وغير رأيه في ثانية إلى “بيت عدلي باشا”، ثم عاد وطالبه ببيت “سعد باشا” فلما وقف العربجي أمام بيت الأخير، ورفع الرجل غطاء الحنطور عنفه الراكب بصوت حاد “قلت لك بيت عدلي وليس سعد.. الله يفضحك يا غبي!.
الحاجة إلى العلم
رأى “سليمان نجيب” أن الأمة كلها وليست مصر فقط في حاجة ملحة للعلم لتداوي أمراضها، ودافع عن حقه كفنان في ممارسة الأدب والنقد فصنعة الكتابة لم تكن يوما قاصرة على طبقة دون غيرها، وخلق انطباعا بأن الحكمة وحلول المشكلات قد تأتي من أكثر المهن تواضعا.