وائل الإبراشي .. نموذجا للإعلامي البارع
بقلم : محمد حبوشة
يثبت (وائل الإبراشي) يوما تلو الآخر بأنه إعلامي من طراز رفيع وعلى درجة عالية من الوعي والحس الإنساني بنبض المجتمع الذي يعيش فيه، ولقد أكد بما لايدع مجالا للشك بأن برنامجه (التاسعة) على القناة الأولى المصرية – العمل الوحيد الناجح في منظومة تطوير ماسبيرو، بفضل جهود الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية – دليل عملى بأن وسائل الإعلام إذا أخلصت فهي ليست مؤسسات معزولة عن مجتمعها، كما لا يمكن أن تنجح وسيلة إعلامية دون العمل على نسج المضامين والرسائل بأسلوب العرض المقنع والمشوق للفئة الجماهيرية المعنية بها، تماما كما فعل الأسبوع الماضي عندما شعر بنبض الشارع المصري وحزنه الحقيقيى على قرار اعتزال اثنين من القامات الفنية الكبيرة التي تحظي بقبول جماهيري جارف، وهما الفنانيين الكبيرين والقديرين (لطفي لبيب وعبد الرحمن أبو زهرة).
استطاع الإبراشي أن يقوي الصلة الاجتماعية بين الجمهور من ناحية وبين نجومه المحببين لهم من ناحية أخرى عن طريق إظهار تعاطفه في أسلوب رقيق يعبر عن مشاعره الصادقة تجاه الفن الراقي، ومن ثم آثر تقديم الشخصيات الشهيرة المحببة إلى نفوس الناس عن طريق حوار بسيط أقرب إلى الفضفضة مع النجمين الكبيرين، حيث ترك لهما المجال كي يعبرا عن حقيقة مشاعرهما تجاه الجمهور المصري الذي أحبهما وتوجهما على عرش النجومية عبر أعمالهما التي تمس الواقع الحياتي من خلال مسلسلات وأفلام ومسرحيات ظلت وستظل راسخة في الوجدان، وأكد (الأبراشي) في ذات الوقت على رسالته الواضحة في أنّ وسائل الإعلام وخاصةً التليفزيون تستطيع أن تلبّي احتياجات الإنسان العاطفية وتشعر ذلك الإنسان بالراحة، والاسترخاء، والهروب من الواقع، ويشعر أيضا باكتسابه تجارب جديدة كلما كان التفاعل مباشرا، خاصة مع إجراء حوارات حية وسريعة تعكس معاناة الفنان في حياته مثل كل البشر، بل ربما تزيد في مأساتها الدرامية أكثر من تصوراتنا.
وفضلا عن ذلك قدم (الإبراشي) درسا عمليا في أن للإعلام دور بارز وفعال في عملية التنشئة الاجتماعية لما يملك من خصائص تعزز من دوره، ومنها: جاذبيته في إدارة حواراته بعمق وبطريقة من شأنها أن تثير اهتمامات النشء، وتملأ جانباً كبيراً من وقت فراغهم، خاصة وأنها تعكس ثقافته الشخصية المستمدة من الثقافة العامة للمجتمع، والثقافات الفرعية للفئات الاجتماعية المختلفة، ولذا فأنه دوما يحيط الناس علما بموضوعات وأفكار ووقائع وأخبار ومعلومات ومعارف في جميع جوانب الحياة، بالإضافة إلى أنها تجذب الجمهور إلى أنماط سلوكية مرغوب كما عكسته حواراته مع نجوم يمثلون القدوة، وبالتالي تحقق للجمهور المتعة بوسائل متنوعة على مدار الساعة بما يشبع حاجاته، وظني أن (الإبراشي) ينطلق من قاعدة وعيه بأن الإعلام أصبح يغزو البيت والشارع والمدرسة ويحدث تغييراً كبيراً في القيم، وإذا لم يواجه ذلك بعملية تربوية منظمة تواكب هذا التطور المذهل، فسوف يؤدي إلى التخبط والعشوائية بل والضياع في العملية التربوية.
طريقة (وائل الإبراشي) في إدارة الحوار أولا مع الفنان الكبير والقدير(لطفي لبيب) كان جديرة بالمشاهدة والاهتمام من جانبي، خاصة أن (لبيب) من خلال حواره كان يتمتع بروح فكاهية جدابة كما كان يبدو صاقا للغاية عبر ذلك البريق الذي يشع من عينيه في برادة مذهلة، رغم عمره الذي تجاوز السبعين، ولقد أعجبتني صراحته المطلقة في قوله: (أنا لا أرى ممثلين كوميديان جدد هذه الفترة، لأنهم أصبحوا يعملون على الإفيهات والكتابة التي تكتب من أجل ممثل بعينه، وليست معتمدة على كوميديا الموقف كما تعودنا، وبالنسبة ليا الكاتب والمخرج المبدعين الأوائل ثم يأتي الممثل المبدع الثانى لينفذ ابداعات الكاتب والمخرج بعد ذلك).
وحتى في معرض حديثه بشأن تجسيد المشاهد الساخنة والتي تحتوي العُري في الأعمال الدرامية والسينمائية، حيث قال: (جميل أن نقدم ما يليق وما يبني، وأن يوافق مجتمعنا ويبني في قيمنا.. وذلك تحت شعار تنمية وتربية)، وأضاف لبيب، (خلينا في التربية واللياقة، ما يليق بالمجتمع نقدمه) ، مشيرًا إلى أنه في مرحلة معينة لم يكن يرفض المشاهد، لكن بعد فترة بدأ في التروي والتفكير.
وقد أفسح (الأبراشي) المجال له بسعة صدر، كي يتحدث عن مشاركة الزعيم (عادل إمام) في بعض الأعمال، حيث كان غاية في الشفافية والامتنان وهو يتحدث بحب قائلا: الشغل مع عادل إمام حلو جدا ودايما عينه عليك ويحب يشوفك كويس، وهو فعلا إنسان وفنان جميل، ودورى معاه في فيلم “السفارة في العمار” زودلى أجرى بعد كده في الأعمال الأخرى، إنظر إلى تلقائية الرجل وشفافية روحه في رد الفضل لأهله، علما بأنه لو لم يقل ذلك لن ينقص من قدره عند جمهور احتشد أمام شاشة (التاسعة) لمتابعة حواره الشيق، وتفاعل في ذات الوقت على مواصل التواصل الاجتماعي بتغريدات وبوستات تؤكد على عظمة وجمال وإبداع (لطفي لبيب) الممثل والإنسان الوطني المحب لبلده وناسه من المصريين البسطاء.
ولعل الملفت في حديث (لطفي لبيب) أن دفعه (الإبراشي) بحنكة المحاور المحترف إلى حديث ذو شجون قال فيه: (إنه شارك في حرب أكتوبر لأنه دخل الجيش في أول السبيعنات وخرج منه سنة 1975، متابعا: كنت جندي مجند سلاح مشاه، وشقيقى كان موجود أيضا وقتها في الجيش، ولكنه كان ضابط وكان أسير عند إسرائيل وتم تحريريه فيما بعد في تبادل أسرى، ودى مرحلة لا يمكن أنساها أبدا، حتى أنى كاتب سيناريو فيلم عن حرب أكتوبر من 45 سنة ومسميه “الكتيبة 26″، ومخلص القصة والحوار والسيناريو بتاعه)، وأضاف ببراءة وتلقائية تخلو من أي غرض أو هدف: (أنا مش شايف فيلم اتعمل صح عن حرب أكتوبر، احنا محتاجين فيلم يتعمل خصلة درامية وخصلة تسجيلية، ويتعمل من الألف للياء، وفى نقطة مهمة لازم ياخدوا بالهم منها، أن الحرب كانت بطولة جماعية مش فردية زى ما بيظهر في الأفلام).
وبفضل براعة (وائل الإبراشي) في انتقاء أسئلة بسيطة كان كلام الفنان (لطفي لبيب) مؤثرا للغاية في نفوس محبيه من الجماهير التي كانت تتابعه في تلك الليلة، عندما قال: صعب قوي الفنان يعتزل.. وكان قرار مؤلم على ولادي، ثم قال في تأثر واضح من تراجع الفن المصري: إن الفن المصري ينبغي أن يسود، كونه مصدرا للعملة الصعبة للبلاد، كما أنه لا بد أن يعبر عن الوجه الحقيقي للشعب المصري، مضيفا: (عاوزين الفن يقدم المصريين بجد، كفانا تشوهات، مش عاوز حد يزعل مني، الصراحة متزعلش)، موضحًا في الوقت ذاته أنه قادر على الاستمرار في التمثيل، ولكنه غير قادر على الحركة (أنا لإما جالسا أو واقفًا أو أّهم بالجلوس أو أّهم بالوقوف)، فهذه المشاهد الذي أستطيع أن أؤديها فقط.
ولأن (الإبراشي) يدرك تماما أن (لبيب) قدوة ومثل لكثير من الأجيال فقد حول دفة الحديث نحو الفضفة أكثر، حيث فضفض قائلا: أنه يقضي حياته الآن في الكتابة ومستمتع للغاية من ذلك، (أنا عامل سيناريو مسلسل، وإحدى شركات الإنتاج تقوم بمراجعته وقراءته، أنا مش عارف بناتي زعلانين ليه لما قولت هعتزل، المفروض يفرحوا هبقى مبدع أول وليس مبدعا ثانيا، بس المشكلة أن الفنان هو اللي بيبان، بس سيظل مبدع ثان، خلاص أنا مش هعتزل، صعب أوي الفنان يعتزل)، ورغم أن المرض أفقده جزءًا من رونقه قال: (الفنان اللي تعود على الاستديوهات وكواليس الاستوديوهات وإضاءة الاستوديوهات صعب عليه أوي الاعتزال، ده مش شغل، الشغل أنك تروح الشغل وترجع تشيل فيشه الشغل، إنما الفن تقعد تفكر في الشغل اللي جاي والعرض هيبقى ازاي وهيطلع شكله اية في الآخر).
صحيح أن الفنان المصري القدير، لطفي لبيب، صدم جمهوره، بأن حالته الصحية لا تسمح له بالتمثيل، وأنه مع ذلك سيقبل أي عمل يكون مناسباً لظروفه، لكن (الإبراشي) نجح في احتوائه، وطمأن جمهوره، عبر الظهور في لقاء تلفزيوني معه، مفسرا الأخبار المؤكدة اعتزاله وموضحا عدم قدرته اعتزال الفن، إلا أنه لا يزال يعاني حاليا من آثار جلطة بالمخ، تضرر منها النصف الأيسر من جسده، وهو ما يؤثر على حركة هذا النصف من الجسد، ما يجعله غير راغب في الظهور بشكل لا يتناسب مع تاريخه الفني الحافل بالنجاحات، إلا أنه يتوق إلى بلاتوهات التصوير وإلى الفن وأجوائه الجميلة التي افتقدها بسبب المرض.
على جانب آخر بدت براعة (وائل الإبراشي) أكثر عبر حواره الرشيق والشيق عن طريق تطبيق (سكايب) مع الفنان الكبير والقدير عبد الرحمن أبو زهرة، حيث جاء بشكل لايخلو من الدعابة والضحك من القلب عبر لحظات عفوية نادرة تحدث فيها (أبو زهرة) بثقة وثبات انفعالي يحسد عليه، ولعل رفع (الإبراشي) بذكاء واحترافية لروحه المعنوية التي بدت طوال فترة الحوار عالية للغاية أكسب حديثه نوعا من العذوبة، ففي البداية قال الفنان الكبير (أبو زهرة) بشكل هادئ، إن هناك فهم خاطئ لتصريحاته الأخيرة، موضحاً أنه يمر بظروف قاسية وضغوط غير قادر على تحملها دفعته لقول أنه يفكر فى اعتزال العمل الفنى، وتابع: “فهمو كلامى خطأ ..أنا بمر بظروف عائلية قاسية أوى وربنا يصبرنى عليها ..ومقلتش هعتزل أنا قلت بفكر فى الاعتزال”.
لكنه أكد في الوقت ذاته أنه لا يستطيع أن يعيش بدون الدراما وتفكيره فى الاعتزال كان بسبب الضغوط التى مر بها، وتابع: (أنا مقدرش أعيش من غير دراما وتمثيل..كانت لحظة حزينة ومعرفش أنا قلتها أزى)، وفي الوقت الذي أبدى فيه (أبو زهرة) ضيق لأن محمود الجندي مات من الحسرة بسبب الوسط الفني – على حد قوله – أكد أنه لن يقوم بتأدية دور “ضيف شرف”، في أي عمل فني مرة أخرى حتى رحيله من هذه الدنيا، مشيرًا إلى أن كافة مشاركاته الفنية فى المستقبل ستكون بأدوار رئيسية وليست شرفية، وتابع: “مش هخليهم يعملوا معايا زي ما عملو مع محمود الجندي”.
تكنيك (الإبراشي) في إدارة الحوار جعلتنا جميعا نتأثر كثيرا بالكلام حين تطرق الفنان الكبير (عبد الرحمن أبو زهرة) في حديثه عن أنه عانى من اكتئاب خلال الفترة الأخيرة، وخاصة بعد وفاة زوجته شهر نوفمبر العام الماضي، معقبًا: (وصلت لدرجة خوفت على نفسي وودت الذهاب لطبيب نفسي)، وأكد في الوقت ذاته أن زوجته الراحلة كانت تعيش معه بشكل كبير، قائلا إنه (حتى اليوم يشعر كما لو أنها توفت أمس)، وذكر أنهما قضيا 56 عامًا سويًا، مشيرًا إلى أن (الفراق كان قاسيًا عليه)، فضلًا عن أنه كان يدعو لزوجته طوال هذه المدة، بشكل غير طبيعي، وفقًا لتعبيره، وتابع: (كنت أتنطط في القنوات وأقول أنا أسعد زوج في مصر، لمدة 30 عامًا وكل عام نزداد حبًا لبعض، حتى حسمت القضية) مشيرا أيضا إلى أن زوجته كانت مشروع كاتبة خطيرة.
أعجبني جدا إصرار (أبو زهرة) ردا على حماس (وائل) لاستكمال المسيرة، على أنه سيواصل عمله الفنى ولن يعتزل، مشيرا إلى أنه تلقى رسائل كثيرة عقب إعلانه التفكير في الاعتزال، وتابع: (لا اعتزال بالمرة، أنا عيطت من رسائل المواطنين)، كما أعجبني أيضا تعبيره القوي الذي يقول فيه: (أنا هزمت كورونا والملل بقرءاة مجموعة قصص نجيب محفوظ والرياضة ولعب اليوجا)، مشدداً على أنه منذ بداية الجائحة وهو ملتزم بكافة الإجراءات الصحية والاحترازية.
وقد أصاب (الإبراشي) في انتزاع تصريح قوى على لسان (أبو زهرة) في توصيفه للحقيقة المرة التي تمر بها لغتنا العربية التي تعيش أسوء عصورها فى سياق أعرابه عن حزنه الشديد تجاه ما آلت إليه اللغة العربية فى الدراما، حين قال: (أنا حزين على اللغة العربية والدراما)، وأوضح أن لغة القراَن هى اللغة العربية الأصيلة، لذلك يختم القراَن ترتيلًا مرة شهريًا، كما أعرب عن استياءه الشديد بسبب إهمال المخرجين لجيل الكبار من الممثلين، وعدم الاستعانة بهم للمشاركة في الأعمال الفنية الحديثة، مؤكدا (أنا لو ماشتغلتش في التمثيل ممكن أموت)، وذكر أن الفن في العالم كله يقدر القامات الكبيرة ويكتب من أجلها أعمالا تليق بمشوارها، لكن في مصر يتم تجاهل الفنانين.
على جانب آخر كان لنجاح حوار (الإبراشي) أثره الواضح في تفاعل الإبن الموسيقي الفنان أحمد أبو زهرة، في بثه رسالة مؤثرة لوالده عبر حسابه الخاص بـ (فيسبوك)، والتي قال فيها: (يا أول من علمني كيف أحترم الفن وأعشقه وأكون صادق في كل نوتة موسيقية أعزفها، من يوم ما كنت بلعب وأجري في كواليس المسرح القومي كطفل وانت زرعت فيا احترام الجمهور وشوفتك ازاي بتدخل على المسرح وتتحول لغول يصول ويجول على خشبته وأنا وكل الجمهور الحاضر في حالة انبهار ومتعة لا نهائية، شجعتني أن أترك مصر لأنك رأيت أن حال الفن في مصر للأسف في النازل حزنت بعد سماعي لمواقف أخيرة حدثت لك في الوسط الفني لا توصف بأنها امتهان لتاريخك ولكن هي امتهان لانتساب من قاموا بإهانتك لهذه المهنة المقدسة ولكن للأسف أصبح ينتسب اليها في مصر الكثيرون الذين يدنسون رسالة الفن الحقيقية ولا يقدرون ولا يعلمون قيمة مثلك، أقول هذا ليس لأنك أبي ولكن لأنك كنت معلمي وملهمي الأول في كل شيء أنت وماما الله يرحمها، ستظل في وجدان الجمهور وسيظل حبهم لك بلا حدود، ولا عزاء للفن المحترم والفنانين المحترمين في مصر.
ظني أن حلقتي الأسبوع الماضي واللتين تضمنتا حواري (لطفي لبيب وعبد الرحمن أبو زهرة) كانتا من أهم حلقات برنامج (التاسعة) منذ بدايته قبل خمسة أشهر تقريبا، وذلك على مستوى التفاعل الجماهير، وهو ما يؤكد لنا أن مراعاة المشاعر الانسانية لنجوم المحبوبين هو أمر محمود وينبغي أن نزيد من مساحته، لأننا نستفيد من خلاصة خبرة فنانون قديرون بعطائهم الإبداعي من ناحية، ونقدم القدوة والمثل من ناحية أخرى لأجيال جدد يتطلعون إلى مستقبل أفضل، وفوق هذا وذاك نضع أيدينا على الجرح الغائر بسبب سلبيات الأعمال الفنية وجرائمها التي ترتكب يوميا من وجهة نظر شيوخ المهنة وعقلائها حتى يتسني لنا أن نعدل الدفة نحو القيمة التي تبرز رسالة الفن الحقيقية .. تحية تقدير واحترام لوائل الإبراشي نموذجا للإعلامي البارع، ومن قبله أجمل تحية للقديرين (لطفي لبيب وعبد الرحمن أبو زهرة) اللذين قدما لنا متعة خاصة في تلك الليلتين.