بشارة واكيم.. المحامي القبطي حافظ القرآن !
بقلم : سامي فريد
ومازال فينا من يؤمن إلى حد اليقين أن الفنان (بشارة واكيم) لبناني الجنسية.. والحقيقة التي قد لا يعرفها الكثيرون هى أنه مصري مولود في حي الفجالة (عام 1891م) وتربى في شبرا غير أنه أحب اللهجة الشامية التي تعلمها من جيرانهم في الفجالة ومن جيرانهم في شبرا، إضافة إلى أن أمه الست (نازلي نصيف) كانت لبنانية.. وكان أبوه هو تاجر القماش الكبير (إلياس واقيم) الذي ترك محله في لبنان ليفتح محلا للأقمشة بالقاهرة ،وكان محله في لبنان في مدينة صور حتى تعرف على والدته في مدينة طرابلس لتنتقل الأسرة على القاهرة ويولد الطفل في الفجالة ثم يلحتق بمدرسة الفرير وفيها يتعلم اللغة الفرنسية.. ومن الفرير يلتحق بكلية الحقوق أو مدرسة الحقوق في ذلك الوقت ليتخرج فيها محاميا بدرجة امتياز ثم يفتح مكتبا كبيرا للمحاماة في قلب القاهرة ليتخصص في المرافعة أمام المحاكم المختلفة بسبب اتقانه للغة الفرنسية.
لكن ماذا يفعل بشارة وعشق الفن قد سكن قلبه؟ كان المحامي الشاب يذهب إلى المحكمة المختلطة صباحا بالبذلة السوداء والكرافت.. وفي المساء يلعب دورا في مسرحية لعبدالرحمن رشدي، أو جوج أبيض بعد أن نجح في الامتحان الذي دعا إليه إعلان الفرقة عند اعتزام جوج أبيض تشكيل فريق مسرحي جديد.
وهكذا.. من فرقة عبدالرحمن رشدي، إلى فرقة جورج أبيض إلى عمله مديرا فنيا لفرقة الفنانة منيرة المهدية، ثم مؤلفا للاسكتشات المسرحية وممثلا أيضا في فرقة بديعة مصابني، وذلك في المساحات بين الفصول الغنائية، وذلك إبان الحرب الثانية التي منعته ظروفها من السفر إلى فرنسا لاستكمال دراسته في القانون.
أما أغرب ما يمكن أن تعرفه عن الفنان الكبير بحق بشارة واكيم وهو القبطي المصري كان يحفظ القرآن الكريم كاملا لأنه وجد فيه خير معلم للغة العربية التي يعشقها، ولأن كان قبطيا سمح الروح والنفس وكان شابا يجيد الفرنسية والعربية ويحفظ القرآن عمل ممثل هاويا في أكثر من فرقة مسرحية حتى انتقل إلى السينما في بداياتها، فعمل في بعض الأفلام الصامتة، كان منها مثلا فيلم “برسوم يبحث عن وظيفة”، وهو من تأليف وتمثيله وإخراجه أيضا!
لكن لماذا لم يتزوج عاشق الفن هذا رغم أنه أحبه من صميم فؤاده مرتان.. كانت الأولى من جارة له في شبرا أحبها وأحبته وهى على اعتقادها بأنه المحامي الكبير الناجح صاحب المكتب الفخم في وسط البلد حتى صارحها بلسانه بأنه سيترك المكتب، وأنه يعمل الأن ممثلا عند جورج أبيض فرفضته كما رفضته أسرتها لأن الفن في ذلك الوقت كان عملا ينظر إليه المجتمع باحتقار!.
ثم.. وهذا أيضا غريب.. أحب بشارة مرة ثانية في بداياته الفنية في العمل بالمسارح فقد أحب الفنانة الناشئة خفيفة الروح ماري منيب، لكنها ولصدمته الشديدة لم تحبه!، منذ ذلك اليوم طلق بشارة واكيم فكرة الحب والزواج وأعطى حياته كلها للفن على أساس ذلك كتب مقالا في مجلة “الاثنين والدنيا” في فبراير عام 1944 يقول فيه “لن أتزوج ولو شنقوني.. وقد يكون الزواج نعمة.. وحاجة حلوة صحيح، لكن الذي رسخ في ذهني منذ الصغر عن الزواج جعلني أكش منه كما يكش موسوليني عندما يسمع صوت تشرشل في الراديو!، لماذا؟ لأن والدتي كانت كلما غضبت مني شيعتني بدعائها علىّ طبعا وهي تقول: “روح الهي يبتليك بجوازة تهد حيلك”، ومنذ ذلك اليوم وأنا أري أن الزواج مصيبة أو نكبه يبتلى بها الله المرء لكي يودع أيام الهدوء والصفاء وراحة البال ليدخل في دور السكينة”.
وبسبب توتر العلاقة بين بشارة وأسرته خرج الفنان من بيت والده ليعيش في بيت شقيقته الذين ترك لهم كل ثروته!
وقد أضحك الفنان بشارة واكيم الملايين لكنه مات باكيا مقهورا بعد أن ارتفع عنده الضغط وهو يؤدي دوره على مسرح الريحاني في مسرحية “الدنيا لما تضحك”، فاحتبس صوته وسقط على المسرح وارتفعت صفارات الجمهور حتى أنه قال لمن حملوه إلى غرفته والدموع تملأ عينيه: بقى أضحكم ثلاثين سنة.. ومش قادرين يستحملوني 3 دقايق وأنا مريض”.. ومات وحيدا في غرفته بالمستشفى وليس له إلا دموعه.. وهو الفنان الذي ترك لنا تراثا أكثر من مائة فيلم، غير ما عمله في المسرح.. هو الذي ترجم واقتبس ومثل في (مسرح رمسيس) لصاحبه يوسف وهبي، وكانت فرقة يوسف بك وهبي عظيمة.. وهو الفنان الذي أجبر أباه على الاعتراف به عندما أرسل دعوه إلى أسرته لحضور عرض كان هو البطل فيه في فرقة منيرة المهدية.. وحضرت الأسرة وسمعت وشاهدت بنفسها تصفيق الجمهور المتواصل لإبنها بشارة فاندفع والده يقفز فوق خشبة المسرح ليحتضن ابنه ويرفع يده باكيا، وقائلا للجمهور: بشارة ده يبقى ابني.. يبقى ابني.. ثم يبكي.
وكانت أكبر صدمة تلقاها بشارة في حياته بعد وفاة الريحاني عندما استدعاه مدير فرقة الريحاني التي كان بشارة قد قرر الاستمرار فيها حتى لا يغلق مسرح الريحاني أبوابه، قال المدير: معلش: أستاذ بشارة.. روح إنت بيتك وحابعتلك محفوظ لحد ما تقدر تتحرك على المسرح وصوتك يبقى أحسن من كده!.. بكى بشارة وهو يسمع رأي أبنائه فيه بعد هذا العمر، وهو الذي كان يقصد أن تستمر الفرقة في عملها.. وغادر المسرح ولم يعد إليه مطلقا.
كان بشارة شاعرا فوق كل شيء.. يكتب الشعر العمودي، وقد حاول الفنان أنور وجدي أكثر من مرة أن يقنعه بأن تتحول أشعاره إلى دواوين مطبوعة فكان رده: الشعر ده بتاعي أنا.. أنا عملت معاكم ممثل وبس.
وعنه قالت الفنانة شادية في مجلة الكواكب في ذكراه عام 1954، أنها بسببه أعادت تصوير أحد المشاهد في فيلمها “العقل في إجازة” أكثر من 20 مرة.. كانت تبكي في المشهد أمام بشارة واكيم، وكان المفروض أن يكون دوره جادا، لكنه كان يتعمد أن يؤديه بشكل يضحكها حتى رجاه المخرج ورجته هى ألا يضحكها حتى تصوير المشهد بعد 20 محاولة لم تستطع معها أن تمنع نفسها من الضحك.
هل تذكرنا الآن بشارة واكيم.. الذي عمل مع منيرة المهدية وبديعة مصابني وجورج أبيض ويوسف وهبي ونجيب الريحاني وعلي الكسار؟ هل يمكن أن ننسى أدواره مع (ليلى مراد أو إحسان الجزايرلي أو يوسف وهبي) في أفلام مثل (غرام وانتقام وليلى بنت الفقراء وليلى بنت الأغنياء أو لو كنت غني أو الماضي المجهول أو قلبي دليلي)، وغيرها وغيرها؟.. كل هذا ليموت وعمره 59 عاماً فقط!
هل نستطيع أن ننساه؟ مستحيل.