25 عاما على رحيل “الموجي” نبع الألحان الذي لا ينضب
كتب : أحمد السماحي
أكسبته البيئة الريفية التى نشأ فيها في قريته “بييلا” محافظة “كفر الشيخ” البساطة والصدق والجمال فى جملته اللحنية، فسكنت ألحانه الذاكرة الجماعية لمستمعي العالم العربي ولم تبرحها حتى الآن، فمن ينسى (غاب القمر، شباكنا ستايره حرير، يامه القمر ع الباب، يا الأسمراني، حيران، ليه يا قلبي ليه، أما براوة، عيون القلب، يا قلب خبي، يا حبيبي قولي آخر جرحي ايه، رمش عينه، الحلوة داير شباكها، بلغوه، داب قلبي، الحلو ليه تقلان أوي، الدوامة، أكدب عليك، لازم نفترق، مستحيل، هنادي، هو الحب لعبة، يهديك يرضيك، جبت قلب منين يطاوعك ع الآسية، ضايع فى المحبة، للصبر حدود، إسأل روحك”، قارئة الفنجان)، هذه بعض النماذج القليلة جدا من ألحان نبع الموسيقى الشرقية، ومهندس الألحان “محمد الموجي” الذى نحتفل يوم الأربعاء القادم بالذكرى الـ 25 لرحيله (4 مارس 1923 – 1 يوليو 1995).
مقدمة قارئة الفنجان
الموجي هو أحد “أسطوات” الموسيقى الكبار فى بلدنا مصر المحروسة، الذي عاش مع كل حرف لحنه، لهذا عاشت ألحانه حتى اليوم وستعيش إلى يوم القيامة، من يسعده الحظ ويستمع إلى المقدمة الموسيقية الأولى لرائعته الغنائية ” قارئة الفنجان” يجد أنه رسم جوا غامضا ــ وكما يقول الملحن والناقد الراحل محمد قابيل ــ قلقا من التشويق الذي يقال عنه “Suspence” في الدراما، والهدف تهيئة المستمع للوجود فى مجلس عرافة تقرأ الطالع، وقد تقول كلاما يسعدك أو العكس.
لذلك تضمنت المقدمة الموسيقية “افيهات” موسيقية بالأورج ترسم مناخ أفلام هتشكوك المثيرة والمخيفة ويساعددها فى ذلك آلات الكمان الرعاشة “Trimolo” أما إذا جاءت العرافة بأخبار مفرحة، فسوف تجد فى المقدمة ما يعبر عنها بإيقاع “الرومبا” تارة و”المقسوم” تارة أخرى على غناء الأورج مرة، و”الناي” مرة ثانية، وقبل أن يبدأ الغناء يعود الملحن لمناخ الغموض والتشويق والتوتر بصوت الأورج مرة، وبالأفيهات الموسيقية الغامضة مرات.
طقوسه في التلحين
هكذا كان يلحن هذا المبدع الخلاق، الذي حريص على خلق الجو الموسيقي المناسب لكل كلام يلحنه، وكان من طقوسه اللحنية وكما ذكر الشاعر المبدع “مجدي نجيب”: إذا رغب فى البدء فى التلحين يمسك بالنص الغنائي الأصلي المكتوب بخط الشاعر، ويبدأ فى إعادة كتابته على ورقة “مسطرة” بخط يده، وكان يفعل ذلك بتأن شديد وكأنه يحاول فك رموز الكلمات والغوص فى معانيها”.
حوار في الشواربي
أتذكر إننى فى عام 1994 كنت أتدرب على الصحافة وأنا طالب فى جريدة “الشرق القطرية”، ويومها طلب مني مدير مكتب جريدة “الشرق” فى القاهرة أستاذي الأول الكاتب الكبير “يوسف الشريف” إجراء حوار مع “محمد الموجي”، وسعدت جدا بهذا التكليف نظرا لعشقي لألحانه.
واتصلت بموسيقارنا الكبير فجاءني صوته الطيب المليء بالحنان، وبعد تعريفي بنفسي، طلب تأجيل الحوار أسبوع نظرا لحالته الصحية، وبعد أسبوع اتصلت به فرحب بي، وعندما ذكرته بنفسي قال لي وهو يضحك ضحكة صافية هادئة اسم “السماحي” لا ينسى!: يارب تطلع واخد شيئ من اسمك، وعندما قابلته فى مكتبة فى شارع “الشواربي” رحب بي بقوة وكأني صحفي كبير، وبعد التحيات والسلامات قال لي: “أنت واخد من اسمك كتير فوشك فيه سماحة وطيبة”، ثم سحبني من يدي كأنني أحد أبنائه، وانتحى بي جانبا، ثم جلس أمامي قائلا فى حنو شديد هات ما عندك، وبدأنا الحوار الذى سعد به جدا نظرا لمعرفتي بألحانه الكثيرة المنسية التى قدمها للمطربين المصريين، ولبعض المطربين العرب مثل “عودة زيادات” من الأردن، و”غسان صليبا” من لبنان، ونشر الحوار على صفحة كاملة، ومن ضمن ما جاء فيه:
سر سحب “بأمر الحب”!
عندما سألته عن علاقته بـ”عبدالحليم حافظ” التى كان يغلب عليها المد والجزر، قال أن “حليم” كان بمثابي أخي الصغير، وصوتي، وعلاقتي به كانت مثل الأب الذى يخشى على ابنه، فتحدث مشادات بينهما، وأنا الذي دربته وعلمته وشرب من أحاسيسي وتدرب على مشاعري، فأتقن الغناء بعد أن شرب روح ألحاني التى كانت سببا في نجاحه.
وأذكر أنني اختلفت مع “حليم” مرة لأن الشاعر الكبير”مرسي جميل عزيز” طلب مني رفع أجري كملحن من “500” إلى “1500” جنيه فى أغنيات عبدالحليم، فذهبت إلى حليم لأطالبه برفع أجري كما قال لي مرسي جميل عزيز.
فقال لي حليم: أمر الزيادة ليس بيدي، ولكن بيد المنتجين وأصحاب الأفلام.
فقلت له: أنت النجم طالب بحقي.
ولكن عبدالحليم آثر عدم التدخل، وكان ذلك خلال تصوير فيلم “يوم من عمري” إنتاج “صبحي فرحات”، وإخراج “عاطف سالم”، فأمتنعت عن تلحين أغنية “بأمر الحب” التى كنت بدأت بالفعل فى تلحينها، فما كان من “حليم” إلا أن نقل الأغنية إلى الموسيقار المجدد “منير مراد”، وقد ظل الخلاف قائما بيننا لمدة عامين لحنت خلالهما لـ “شادية، ومحرم فؤاد، وصباح” وافتتحت مدرسة الموجي الغنائية التى تخرج منها أكثر من صوت.
أسرع لحن
وعن أسرع لحن قام بتلحينه قال: “الرضا والنور” لأم كلثوم، فقد انبهرت بكلمات الشاعر والمتصوف “طاهر أبوفاشا”، وأمسكت العود وانتهيت من اللحن فى لحظات، وأعجب اللحن “أم كلثوم” كثيرا.
التجديد اللحني
عن التجديد اللحني فى ألحانه قال: كان فى لحن “حانة الأقدار”، حيث وقف شعر رأسي عندما قرأت الكلمات، وعندما انتهيت من اللحن ذهبت إلى “أم كلثوم” لأسمعها، فإذا بها تقول لي اترك الشريط جانبا يا “محمد” وامسك العود واسمعني، فأسمعتها مرة ومرتين، ودهشت “أم كلثوم” واندهشت، وسألتها خير يا ست؟! هل هناك شيئ باللحن لا يعجبك، وإذا بكوكب الشرق ترد بدهشة اللحن جميل وجديد وبه إضافات لحنية غير مسبوقة، أريد أن أجد شيئا لمناقشتك فيه لا أجد! برافووووو يا محمد.
رحم الله موسيقارنا الكبير العائش بيننا، بألحانه التى ما زالت تتردد بقوة حتى الآن، رغم مرور سنوات وسنوات عليها، فى حين مات ملحنين كثيرين كانوا في جيله وفى الأجيال التالية.