رصاصة السينما في صدر التجار الجشعين!
بقلم : سامي فريد
هذا الفيلم يمكن بلا تردد أن نعتبره أول رصاصة سينمائية في صدور من عرفوا بتجار الحرب أو أغنياء الحرب منذ اشتعال الحرب العالمية الثانية عام 1939 ورغم أن الفيلم من إنتاج عام 1945، وهو عام انتهاء الحرب لكنها بعض الظروف الإنتاجية التي لا يمكن أن نحاسب منتج الفيلم عليها.
والفيلم.. رغم ما قد يبدو فيه من بدائيات العمل السينمائي سواء في أداء الممثلين أو حركة الكاميرا أو الديكورات أو تحريك المجاميع في الحارة المصرية التي تعرضت.. كما تعرضت كل مصر لهذا الاشتعال المفاجئ في الأسعار.. لكنه رغم هذا كله يبقى له قصب السبق في جرأة اقتحام هذه الأرض الوعرة مع ما قد يصادف في خواره أو السيناريو المرسوم له من بعض المباشرة والوعظ والخطابية حتى ليكاد الفيلم في بعض أجزائه أن يتحول إلى مقال سينمائي في محاربة الجشع، وليس من سينما مصورة يؤديها طاقم من ممثلين بارعين أدوا ما طلب منهم وبحب ظروف إنتاج الفيلم.
والملاحظات على الفيلم من هذا النوع كثيرة لكنه يمكن التغاضي عنها إذ يشفع لها جرأة الاقتحام.
أما قصة الفيلم وهى من سيناريو وحوار وإخراج كامل تلمساني، وإن كنا نعتقد أن القصة قد اشترك في وضعها السيد بدير أحد أبطال العمل.
ويحكي الفيلم عن هذه الحارة الوادعة التي يرفرف عليها التكامل والتعاطف بين سكانها حتى تنشب الحرب فيبرز من بين سكانها الطيب والقبيح.. والمسالم والمستغل مصاص الدماء.
كان من هؤلاء المستغلين الذين تنبهوا لفرصة رفع الأسعار واحتكار كل السلع في السوق التي تحولت بجشعه إلى سوق سوداء هو المعلم (سيد البقال) الذي أدى دوره ببراعة الفنان عبدالفتاح القصري، إلى استطاع أن يغوي معه الرجل الطيب (أبو محمود) صاحب الفرن في الحارة وهو يغريه بما سيعود عليهما من المكاسب ويضع كاتب الحوار على لسان المعلم سيد كلمة “السمك.. السمك” يرددها بين حين وحين لينبهنا ربما أننا سنشهد صراعا بين السمك الكبير الذي ولابد أنه سيلتهم دون رحمة الأسماك الصغيرة، وهم أهل الحارة التي هي قطعة من مصر يجري عليها ما سوف يجري على كل مصر.
والملاحظات من هذا النوع كثيرة منها مثلا اختيار شخصيات الفيلم الأمر الذي يسمح بتصنيفهم إلى فئتين: مستسلمة للاستغلال لا تعرف كيف تدفعه عنها وهى لا تملك سوى الشكوى والتنبيه إلى الخطر المحدق وفئة جشعة مستغلة بلا رحمة ولا ضمير.
من الفئة الأولى يمكن أن نسمي بطل الفيلم الوجه الجديد (عماد حمدي) الذي يلعب دور (حامد) الموظف البسيط صاحب الجنيهات السبعة والنصف والذي يخطب (نجية) ابنة المعلم أبو محمود الفران (زكي رستم) الذي لا يجد المعلم سيد البقال أية صعوبة في أن يضمه إلى جانبه تحت إغراء المكاسب الكبيرة، وتلعب دور نجية الفنانة (عقيلة راتب) التي كان لها الفضل في اكتشاف عماد حمدي سينمائيا وتقديمه لمشاركته بطولة هذا الفيلم..
من الفئة الأولى التي تقع فريسة لاستغلال تجار الحرب سنجد محمد كمال المصري (شرفنطح) الحلاق الذي يحكي الحكايات والأشعار، وهو الذي نسمع منه مثلا بيتا من الشعر يحرض الناس على المقاومة وهو ينسبه إلى عنترة بن شداد عندما يقول: (إذا ابتليت بظالم.. كن ظالما).. وهو تحريض صريح على المقاومة وبقوة.
منهم اأضا بطل الفيلم عماد حمدي الذي يصرخ في الناس وهو يحذرهم: المسألة مسألة التجار اللي خانوا البلد وأهل البلد واستغلوهم.
أو وهو يقول لأهل الحارة ما قد يعرضه لفسخ خطوبته من (نجية) ابنة المعلم صاحب الفرن، لكنه رغم ذلك لا يخاف ويقول: انتم سبب غناهم.. أنتم اللي استسلمت ليهم عشان ما بتبلغوش عنهم.. بلغوا عنهم.. قاطعوهم! لتتحول بعض المشاهد إلى مقالات مصورة لا تحتاج إلى سيناريو أو حركة كاميرا!!
ثم تبدأ النهاية تقترب باقتراب لحظة الصدام بين المطحونين.. والمستغلين تجار الحرب.. عندما يتغير حال الرجل الطيب (زكي رستم) أبو محمود فيعرفه المعلم سيد البقال على الساقطات ليتزوج أحداهن فينحسر أمواله التي جمعها من الجشع عليها.
وتقفز أمام أعيننا بكل الوضوح بعض المشاهد لشرفنطح وهو يقول للتلاميذ الذاهبة إلى المدرسة: حاسبوا على الكتب اللي ما انتوش عارفين قيمتها.. وهى دعوة صريحة على أن الحل لابد سيأتي مع الوعي والتعليم.. ثم بعد ذلك مشهد التلاميذ في طابور الذهاب إلى المدرسة وهم ينشدون “بلادي بلادي فداكي دمي”، ليذكروا المشاهدين بواجب وطنيتهم ومصريتهم..
ولا يفوت كاتب السيناريو أن يكتب مشهدا نرى فيه بعض ملامح الألم على وجه المعلم أبو محمود وهو يتذكر حلم الحلاق عن ذلك الثعبان الذي شرب ماء النيل كله!!
ولابد أن نلتمس بعض الغدر لكاتب السيناريو والحوار المخرج كامل التلمساني عن بطء الكاميرا الشديد التي تتوقف طويلا على وجه عقيلة راتب.. فهي صاحبة وجه جميل سيسعد الجمهور.. وصاحبة صوت جميل أيضا لتغني أكثر من أغنية في الفيلم يسعد بها الجمهور: أهو كلمني.. أهو كلمني وجه وصالحني.. ثم أغنية أخرى هي: سلم عليهم يا نسيم..
وفي الفيلم نرى المرأة مهدرة الحقوق والشخصية.. عندما تنظر نجية (عقيلة راتب) وأمها (ثريا فخري) إلى الأب المخمور العائد بعد سهرة مع البقال مصطحبا معه أكثر من امرأة ساقطة لتكون هذه هي بداية سقوطه.. تنظران ولا تفعلان شيئا!!
وبعض المشاهد الخفيفة عندما يسأل حسن (محمد توفيق) ابن الحلاق عن معنى 18 مليون وهو مقدار الشعب المصري في ذلك العهد، فيقول الولد انه يعني 18 ألف ألف.
لكن حسن يموت عندما يرميه سيد بدير مساعد البقال بصندوق يقتله فيقول عماد حمدي لحسن الذي يموت: انت راجل عظيم يا حسن!!
ثم تأتي نبوءة عماد حمدي في نهاية الفيلم وهو يصرح لنجية التي كانت خطيبته قبل أن يفسخ أبوها الخطوبة: أبوكي وحسن البقال هما اللي حينتهوا مع الحرب..
ثم: البلد ما انضرتش من الحرب.. البلد انضرت من أبوكي وسيد البقال!
ويشاغلني سؤال الآن: هل مازلنا نحتاج إلى مثل هذه الأفلام الآن، ولكن بشكل متطور عالي التقنية لمساعدة الحكومة في فصح بعض بؤر الفساد التي ما تزال تحاول أن تطل برؤوسها إن سمحت لها بعض الظروف؟.. سؤال!