بقلم : محمد حبوشة
افتقدنا كثيرا أداءه العذب الشجي في التجسيد الدرامي الحي قبل أن يحيد عن المسار المحدد له كممثل محترف ذهب مؤخرا إلى مناطق تجريبية أشبه بالتجريد في الفن التشكيلي، فقد اعتدنا في كل موسم رمضاني أن يظهر النجم السوري الكبير “تيم حسن” مهاراته المتعددة في التعابير الجسدية عبر أحد الأعمال المهمة، وهذا ما ذكرني بمثل أورده معلم التمثيل الأول في العالم “ستلانسلافسكي” في كتابه “إعداد الممثل” حيث يقول: سئل ربان سفينة كيف يتأتى له أن يتذكر ـ خلال رحلة طويلة ـ جميع التفاصيل الدقيقة لساحل من السواحل بمنحنياته وأجزائه القليلة الغور وشعبه الصخرية، فأجاب قائلا: ليس ألقي لها بالا؛ وإنما أنا التزم خطة سير معين لا أحيد عنه، وهذا هو المسلك الذي يجب أن يسلكه الممثل إذ يجب أن يتقدم في طريقه غير حافل بالتفاصيل العديدة، وإنما يكون احتفاله بتلك الوحدات الهامة التي تعيق خط سيره وكأنها الإشارات، وتجعله لا يحيد عن الاتجاه الإبداعي الصحيح.
وعلى مدار رحلته الإبداعية الطويلة في مهنة التمثيل كان “تيم حسن” يعمل بخطة سير في الأداء لا يحيد عنها، قوامها الاجتهاد والمذاكرة والتطور من مرحلة إلى أخرى، وهو حقق له النجاح منذ بداياته الأولى في الدراما السورية عام 2000 في عملين الأول فنتازي وهو “كان ياما كان، والثاني تاريخي “الزير سالم”، ثم من بعدهما “صلاح الدين الأيوبي، صقر قريش، أبو الطيب المتنبي، ردم الأساطير”، مرور بأول بطولاته المشتركة مع النجم الكبير جمال سليمان في “ربيع قرطبه”، وبداية ظهوره كممثل له سمت وملامح وأسلوب تلقائي خاص في “التغريبة الفلسطينية”، وبطولته الأولى في “ملوك الطوائف”، ثم “نزار قباني”، وإبداعه في تجسيد دور “عبود” باعتباره شخصية “البلطجي أو القبضاي” في “الانتظار”، ورائعته عبر إطلالته الأولى في الدرما المصرية “الملك فاروق”، التي حببت المصريين في الملك الشاب ونفضت كثيرا من الغبار حول شخصيته حين جسده “تيم” جذابا وصحب الكاريزما، وكذلك المسلسل البدوي “صراع على الرمال”، في لون جديد ومختلف عليه اقتحم من خلاله عالم البادية والصحراء، وفي مراحل النضج لعب دورا مركبا في “أسعد الوراق” لفت الأنظار إليه كثيرا في حينه، والجاسوس بأسلوب السهل الممتنع مع “عابد كرمان” والرمانسي صاحب الملامح القوية في “الصقر شاهين”.
لكن إبداعه الحقيقيى ظهر خلال السنوات الـ 16 الأخيرة بداية من “الإخوة” بشخصيته الجذابة في فتنة آسرة حين جمعت جبروت القوة بمزيج من النعومة، وفي “تشيللو” بمشيته المتزنة لشخصيّة “تيمور”، تلك التي تتوافق تماما مع حاشيته التي تمشي خلفه دائمًا، كما أظهر أناقة وسحرا آخاذا يليق بشخصيته ملبسا ومأكلا ومزاجا، أما تجسيده لدور “ميار” في “نصّ يوم” فقد اختار له مشية الأبله، وهو ما نجح في إظهار الشخصيّة ضعيفة وفقا لمقتضيات الدور وسير الأحداث التي تجمع بين الإثارة والتشويق، وعلى نفس الوتيرة أيضا نجح في شخصية “همام” الصعيدي في “الوسواس”، وهو ما جعله بالضرورة لايواجه مشكلة مع شخصية “جبل شيخ الجبل” في “الهيبة”، إذ أنه تصرف في أدائه مثل جبل راسخ؛ قليل الكلام، هادئ، متزن، وقادر دوما على أن يكون قوام عشيرته التي يتزعمها، كما أظهر في الوقت نفسه، قوته وغلبته على أفراد عشيرته وعلى العشائر الأخرى في قريته، وعلى تجار السلاح الذين يشكلون مصدر دخل له ولـ “عائلته”، أهل الهيبة، وفق تعبير العمل، ومن هنا فلابد أن نسجل إعجابنا الكبير جدا بـ “تيم حسن” الذي جعلنا ألا ننظر إلى أدائه من خلال الصورة النمطية للزعيم التي اعتدنا عليه في الأفلام والمسلسلات المصرية والعربية، أو مسلسلات سورية مثل “باب الحارة”، الأمر الذي جعل التحدّي أمامه صعب للغاية.
ولأن الفن الدرامي لا مناص للممثل فيه من الإيمان بالكلام الذي سيلقيه على مسامع المتفرجين، والذي يتضمن جملة من الأفكار والمشاعر ليس إيمانا مجردا بل إيمانا صادقا فيما يلقيه من حوار بعد التعرف على أبعاد الشخصية الطبيعية والنفسية والاجتماعية وصفاتها بالسلوك والتصرفات وطريقة الكلام، فقد أثبت “تيم” في الجزء الثاني من مسلسل “الهيبة” إنه ذلك الممثل الذي يستطيع بخبرته أن يتعرف على العناصر التي تجذب السامع وتثيره من أجل إبراز القيم الدرامية المختلفة من خلال لعبه دور “جبل شيخ الجبل” ببراعة غير منقوصة، الأمر الذي اسمه ينطبع في مخيلة المشاهدين الرمضانيين، وأصبح حديث مجالسهم، ولقد استقطبت هذه الشخصية شريحة كبيرة من الشباب في كل من سوريا ولبنان، وقد ساعدت كاريزما الممثل السوري المبدع “تيم حسن” على تقديم شخصية “جبل” بطريقة مميزة قل نظيرها في مسلسلات “الأكشن” العربية.
نعم استطاع “تيم حسن” طوال موسمين أن لا يكون مجرد نجم درامي وإنما شكل حالة اجتماعية بـ “الكاراكتير” الذي خلقه، وعرف كيف يحافظ على هيبته التمثيلية الإبداعية ويضيف إليها أبعاداً شعبوية جعلت من الممثل بطلا قوميا متسلحا بإبداعه التعبيري فقط، وكل رشاشاته ومسدساته مجرد تفاصيل تضيف أبعاد أخرى على الشخصية، فقد جاءت هذه التجربة كظاهرة، وبدأ الكبار والصغار يتمثلون بهذه الشخصية بلباسهم الأسود ونظاراتهم السوداء وحركاتهم الصارمة والرجولية، ولقد روج “تيم حسن” لكلمة “منتهية”، التي يرددها باستمرار، ولم يقتصر هوس المعجبين بـ “جبل” على سرقة عباراته، بل قام أحدهم بتسمية مطعمه باسم “جبل” وإلى جانبه شعار “لازم تقرا كل العالم”، وهو مستوحى من أغنية المسلسل التي يؤديها المغني السوري “ناصيف زيتون”، أما قصة شعر وذقن “جبل” فقد كان لها حصة عند المعجبين، حيث باتت موضة لدى كثير من الشباب، حتى إن بعض الصالونات وضعت عروضا وأسمت القصة “ذقن جبل فقط”.
ورغم ذلك ياصديقي “تيم” لاتنسى أن “الهيبة” ليس عملا اجتماعيا رغم أنه حافظ طويلا على تماسك العائلة، وليس عملا رومانسيا رغم الخط الواهي الذي يحاول الحفاظ عليه من جزء لآخر، لكنه يشير إلى أن “روبن هود السوري” هذه المرة، يعيد إلى الأذهان قصة “بابلو إسكوبارا” زعيم المافيا الكولومبي وأشهر تاجر للمخدرات، الذي ذاع اسمه في عالم الجريمة، لكن سكان قريته أحبوه لمساعدته لهم، وحله مشاكلهم، حتى أن المخرج استخدم صورته في خلفية العديد من المشاهد، لكن الحقيقة أن المسلسل يحكي قصة أكبر مزارع لمادة “الحشيش” في لبنان، والمطلوب للعادلة، وقائد ميليشيا في جبال البقاع “نوح زعيتر”، الذي كان له ولعشيرته دوراً كبيراً في حروب حزب الله في منطقة الزبداني والقلمون على الحدود اللبنانية السورية رغم أن حزب الله قد تنصل منه.
وربما هذا الانتشار الكبير للمسلسل لم يكن مستغربا بنظر البعض مع ارتفاع نسب العنف في البلدان العربية، وانتشار الجريمة والزعامات والميليشيات، إذ يرى البعض أن المسلسل يمثل حالة واقعية تعيشها العديد من الدول العربية، كما أن شخصية “جبل” موجودة في كل دولة عربية، بعضها غير معروف والآخر معروف ويعيش حياته ويمارس نشاطه بحرية، بسبب الفساد، لكن المستغرب اليوم هو قبول الجمهور لهذه الشخصية السلبية بالمكون العام من قبل الجمهور واعتبارها رمزاً محبباً، على عكس النفور من مثل هذه الشخصيات بالماضي، واعتبارها مثالاً سيئاً لا يجب تقديمه بصورة مقربة للناس بهذا الشكل.
وليس بمستغرب أيضا أن أصبحت الدراما اليوم تلمع صورة هؤلاء؟ وتقدمهم بـ “بدلات وربطات عنق” ليقبلهم الناس؟ بل أصبحت تعطيهم بعضاً من صفات البطولة والكمال؟ ليتغاضى الجمهور عن كونهم لصوص أو قتلى أو على الأقل تجار مخدرات؟ وهذا الكلام على عكس وجهة نظر كاتب العمل “هوزان عكو”، والذي قال من قبل أن الدراما في “الهيبة” لا تلمع ولا تجمل، بل تقدم صورة واسعة لشخصية ذات نفوذ في منطقة خطرة، القراءة الدقيقة للشخصية تظهر أن الرجل كبير عائلة وليس زعيم عصابة، وهذا ما ذكرناه في أكثر من موضع في العمل، وأعتقد أن محاولة جر الدراما إلى نوع معروف كالـ “أكشن..عصابات.. مافيا..” يغيب جانب آخر، والذي هو الحالة الاجتماعية التي تحتضن هذه العائلة”، وهنا لابد لي من وقفة لتوضيح قدرة المسلسل في وقتنا الحالي كحامل أفكار ووسيلة تغيير، لذا يجب أن يكون البطل إيجابي بالضرورة، إذ لا يجب أن تترك هذه الشخصيات لتكرس قيم سيئة على جناح ما يسمى بالأكشن والإثارة والتشويق.
الحقيقة المرة أن النجم السوري “تيم حسن” بدأ يفقد “هيبته التمثيلية” ربما بتأثير من “الهيبة”، كما جاء بأداء انفعالي غاب معه شغف المتابعة الكاملة في الجزء الأول من مسلسل “عائلة الحاج نعمان”، ما يعكس عدم هضمه جيدا لشخصية”خالد ” التي جسدها بارتباك غير معهود لممثل حقق جماهيرية طاغية خلال السنوات الأخيرة في مسيرته الفنية، فقد بالغ “تيم” كثيرا في تجسيده للشخصية بأداء هيستيري مطول عبر حركات وسكنات متكررة في الجزء الأول، إلا إنه قد حالفه جانب لا بأس به من الصواب في أداء شخصية “كمال” في الجزء الثاني، والذي جاء على غرار أدائه لشخصية “عبود” في مسلسله السوري البديع “الانتظار” قبل 14 عاما، حيث استطاع استعادة أدواته من جديد وبشكل احترافي استطاع من خلاله الإلمام بالشخصية بأبعادها المختلفة، وجاء تعبيره بالإضافة إلى حركاته وإيماءاته على نحو صحيح مكنه من استعادة لياقته التمثيلية من جديد.
وهنا أطالبه بإعادة النظر فورا في أعماله المستقبلية، لأنه من بين قلة من الفنانين الذين لا يمكنهم فصل وسائل التعبير لديهم عن أنفسهم، لأنهم يبدعون باستخدام أجسادهم وأصواتهم وميزاتهم النفسية والعقلية؛ أي أن إبداعهم لا ينفصل عن شخصياتهم، وأكد “تيم” دوما بما لايدع مجالا للشك في أنه من الصعب فصل موهبة الممثل وإبداعه عن شخصيته، غير أن التمثيل فن، وكما هو الحال في أي فن، فلا بد من توافر عناصر أساسية لدى الممثل، مثل المقدرة والدراسة والممارسة، لكنه على مايبدو قد استسهل شخصية “جبل” ووقع في النمطية والتكرار، الأمر الذي جعل “تيم” في الجزء الثالث من “الهيبة ” لايفي بمتطلبات المرونة والتحكم والتعبيرعلى طول الخط، رغم أنه من فئة قليلة من الممثلين الذين يتدربون على طريقة التنفس بطريقة صحيحة، وعلى التنويع في إيقاع الصوت والنبرة، كما أنه يتقن التحدث بلهجات مختلفة.
معذرة صديقى “تيم حسن” الذي أحبه وأعشق أسلوبه في التمثيل الذي يعتمد فيه على مدرسة الفعل الجسماني، ويبذل جهدا مضنيا في الشغل على الشخصية باختلاف أطوارها، فعلى مايبدو قد أصابتك تيمة ألعاب المافيا في الجزء الثالث من “الهيبة” بالاعتماد على الشكل الخارجي الظاهر للشخصية دون الخوض في دواخلها على المستوى النفسي، ما انعكس بالضرورة في شكل نوع من الكسل في التدرب على الإلقاء والاسترخاء، وهذا شيء مهم، وكانت من الآثار السلبية لهذا الكسل أن انحرفت عن المسار الطبيعي لتطورك كممثل محترف، كما ظهر واضحا جليا في برودة الأداء بمسلسل “العميد” الذي تخلل أجراء “الهيبة”، ما جعلنا نتشوق لعودتك من جديد على جناح البريق الآخاذ والفتوة في الأداء الذي ينسجم وموهبتك العظيمة.
ومن ثم يلزمك العودة مجددا إلى التدريب مثل كثير من نجوم هوليود الذي ينخرطون بين الحين والآخر في ورش تدريبية لاكتساب القدرة على تطويع أصواتهم بشكل كبير يسمح لهم بالتحدث بصوت مرتفع أو منخفض أو بشكل حاد أو ناعم، وهذا ديدن الممثلين المحترفين أمثالك إنطلاقا من إيمان عميق بعقيدة التدريب الدائم على تحسين قدراتهم الصوتية، ومرونة أجسادهم طوال مدة ممارستهم لمهنة التمثيل قبل الوقوع في المحظور، كما جاء الجزء الثالث من “الهيبة”، في أداء “تيم” عبر سكناته وهمساته وانفعاله الزائد عن الحد أحيانا في بعض المواقف العصيبة التي تطرأ على الأحداث، فتقوم ثائرته في غير محلها.
ومن حسن حظك يا صديقي أن جاءت جائحة “كورونا” كي تجبربك قسرا على عدم عرض الجزء الرابع من “الهيبة” الذي كان سينقص حتما من رصيدك جراء أسرك في خانة الأداء المافياوى، وأنت الذي منحك المولى عز وجل وسامة وموهبة كبيرة تحتم عليك الرفق بنا بتنويع شخصياتك من موسم إلى آخر، وحبذا لو أقدمت على الجانب الرومانسي الذي نفتقده كثيرا في دراماتنا العربية اللهم إلا مسلسل “ونحب تاني ليه” الذي كان واحة رحبة في مضان 2020 حيث استطاع أن يذكرنا برومانسية الزمن الجميل، كما أتمنى عليك العودة إلى الأعمال التاريخية والسير الذاتية التي برعت فيهما على نحو إبداعي جعلك في مصاف النجوم الكبار، ولماذ لاتجرب اللون الكوميدي، فأنا أري أنك تتمتع بحس كوميدي رائع لامست جانبا منه في “الملك فاروق”، وهذا كان سببا جوهريا في تقريب شخصيته لقلوب المصريين الذين أحبوه خفة دمه وتعلقوا به ممثلا فيك.
وفي النهاية أهمس في أذن “تيم حسن” قائلا: لقد أجبرتك جاحة “كورونا” على استراحة محارب رغما عنك، وربما كانت فرصة مواتية لإعادة حساباتك، والآن عليك انتهاز الفرصة بمراجعة نفسك والعودة لجمهورك المحب بشكل جديد يمكن أن يستعيد لك “هيبتك التمثيلية” التي هى أهم بكثير من صناعة المافيا التي بالغت فيها كثيرا إلى حد أنها بضاعة صارت فاسدة بتكرارها ونمطيتها التى غدت منفرة لجمهور يتوق إلى كل جديد تبدعه من فرط موهبتك الفطرية التي أصابتها قذائف وشظايا المافياوية ببعض العطب الذي لاقدره الله لك ولا شاء كى ينال من شموخك الفني.