بقلم : محمد حبوشة
عديدة هى التجارب الدرامية ذات الأجزاء التي أطلت على مدار تاريخ الدراما العربية، بعض منها بالطبع نال حظه من النجاح الكاسح، بينما سلك كثير منها طريقه تجاه الفشل الذريع بسبب استسهال صناعه على مستوى الفكرة والمضمون والمعالجة الدرامية التي تعمد المط والتطويل ، وبنظرة عامة على ما قدمته الدراما العربية من مسلسلات الأجزاء سنجد أنها لم توجد إلا في أعمال حققت النجاح الجماهيري في خطوتها الأولى، وربما كان ذلك من دون أن يكون لدى صناعها نية مبيته لإنتاج أكثر من جزء، لكن يبقى نجاح تلك الأعمال هو السبب الجوهري الذي كتب لهم الاستمرار في سلسلة من الأجزاء.
ولكن في وقتنا الحالي، اختلف الأمر، وأصبحنا نرى منتجي الدراما يتجهون ناحية دراما الأجزاء على غرار “ليالي الحلمية، السيرة الهلالية، محمد رسول الله”، أو أعمال طويلة تزيد حلقاتها على الستين، كما في “سيرة حب، هبة رجل الغراب، سلسال الدم، باب الحارة، بقعة ضوء، صبايا، الكبير أوي، طوق البنات، حرملك” وغيرها في خارطة رمضان 2021، مثل “الاختيار، بـ 100 وش، ليالينا 80، النحات، الساحر، سوق الحرير”، ليبدو أن نجاح هذه الأعمال بات مرهونا بطبيعة مواضيعها وأفكارها، ليبقى السؤال إلى أي حد ستكون دراما الأجزاء قادرة على المواجهة والاستمرار؟، خاصة أن هذه النوعية عبارة عن موجة جديدة تغزو الدراما، ولن تتمكن من الصمود طويلاً أمام حالة التقلب التي تعيشها الدرامات العربية.
عادت إلى الظهور مجددا دراما الأجزاء المتعددة فى المسلسلات، والتى عادة ما تكون لنجاح الجزء الأول من تلك المسلسلات بحسب الجماهيرية وإما طلبا من القنوات الفضائية التى تريد ملء ساعات الإرسال لديها، أو ربما لضرورة درامية، وإما لأسباب أخرى بناء على طلب النجم الذي يفرض شروطه على الشركة المنتجة، والمتابع فى مسلسلات الأجزاء يجد أن بعضها حقق نجاحا كبيرا على مدار أجزائه مثل مسلسلات “الست كوم” كـ “تامر وشوقية ” و”راجل وست ستات” ومن قبل كانت هناك مسلسلات “الشهد والدموع” و”ليالى الحلمية” فى أجزائه الأربعة ومسلسل “الدالى” فى جزئيه الأول والثانى وفى الفترة الحالية يستعد أكثر من مسلسل لتنفيذ جزء ثانى وثالث ورابع خاصة في رمضان 2021، بحسب إعلان صناع ستة أعمال مصرية وسورية حتى الآن.
والحقيقية أنني أندهش من جرأة بعض شركات الإنتاج وتعمدها في الإعلان مبكرا عن أجزاء لمسلسلات فشلت فشلا زريعا في جزئها الأول مثل مسلسل “النهاية” الذي جنح في مضمونه نحو خرافة متعمدة، وليس خيالا علميا يمكن أن يجذب الجمهور إليه في سلسلة جديدة من الحلقات ربما تشكل نوعا من المتاهة الجديدة، وكذلك الحال مع مسلسل مثل “سوق الحرير” الذي ظل يتأرجح مؤلفه ومخرجة “بسام الملا” بين الشكل الاجتماعي والبيئة الشامية العصرية حتى فقد شكله وملامحه، خاصة مع خط النهاية الذي تحول بموجبه إلى فيلم هندي بامتياز، فضلا عن ترهل أداء نجوم كبار على غرار”بسام كوسة، أسعد فضة، سالوم حداد”، وغيرهم علما بأنه مشهود لهم في الأداء و نجحوا في أعمال اجتماعية وبيئة شامية خالصة من قبل، على مستوى الديكور والمكياج الي جاء رديئا للغاية في “سوق الحرير”.
ونفس الشيئ ينطبق على مسلسل “ليالينا 80 الذي ظل متماسكا 15 حلقة حتى تحول إلى نوع من العشوائية وارتباك في الأداء خاصة من جانب كل من “إياد نصار، غادة عادل”، ورغم أن الأداء ظل محتفظا برونقه الخاص وبريقه الآخاذ لكل من “صابرين وخالد الصاوي” إلا أن ذلك لا يرشحه لجزء ثان بحسب إعلان صناعه، لأن القصة أصبحت مملة والشخصيات لايمكن تطويرها دراميا بنفس زخم الحلقات الأولى، بعد أن اعتاد المشاهد تكرار جرعات مكثفة من التراجيديا المفتعلة مع برود واضح في الأداء بطريقة غير انفعالية بالمرة.
ياسادة تقديم الأعمال الدرامية على شكل جزء ثانى أو ثالث يتوقف نجاحها على عاملين أساسين الأول أن يحقق نجاحا ويشعر المسئولون عن إنتاجه والمسئولون عن عرضه بنجاح العمل، والثانى أن تكون الدراما محتملة الخطوط العريضة لعمل جزء آخر من المسلسل، وعندما لا يحتمل العمل هذا ولا ذاك فيكون هناك مط وتطويل فى الموضوع، وإضافة أشياء لم تكن أساسية فى المسلسل، ولذلك نرى بعض المسلسلات تكون ناجحة فى الجزء الأول والجزء الثانى يفشل ولم يحقق نجاحا بسبب مطه وتطويله وعدم وجود خطوط عريضة فى كتابة المسلسل.
ولهذا من وجهة نظري يمكن أن ينجح الجزء الثاني في مسلسلات مثل “الاختيار” باعتباره يعرض نماذج وطنية وقصص إنسانية حول شهداء ضحوا بأنفسهم من أجل تراب هذا الوطن، ولعل سجل الجيش والشرطة المصريين مزدحم بتلك النماذج البطولية التي تحمل في طياتها أبعادا إنسانية في حياة هؤلاء، كما أننا في ذات الوقت بحاجة ماسة إلى تلك السلاسل من الأعمال الوطنية التي تعيد تشكيل الهوية لدى الشباب المصري في ظل الظروف الراهنة، وكذلك الأمر ينسحب على مسلسل”بـ 100 وش” جراء نجاحه في كوميديا الموقف، وجلبه لنوع من الفكاهة المحببة التي كنا نشتاق إليها كثيرا، ومن ثم يحتمل أن تستمر عمليات النصب بطريقة فكاهية يمكن أن تجلب نوعا آخر من المتعة لاتقل عن متعة الجزء الأول بمواقفة الكوميدية الصارخة بالضحك، خاصة بالنسبة لأداء كل الفريق العمل الذي تميز بالانسجام والهارموني طوال الحلقات ولم يفقد جاذبيته لحظة واحدة طوال 30 حلقة.
وأفهم أيضا أن يكون هناك جزء ثاني لكل من المسلسلين السوريين “النحات والساحر” نظرا لأن الفكرة لم تكمل في جزئيهما الأول حيث تم اختصارعدد من الحلقات ما جعل المساحة الزمنية المتاحة تسمح لصناعهما من استكمال الحبكة الدرامية على نحو صحيح، أو بشكل يمكن أن يشفي غليل مشاهد يتطلع إلى جرعة من الكوميديا والإثارة والتشويق في “الساحر”، وفك الرموز والألغاز التي سادت حلقات مسلسل “النحات”، وهو ما يحتمل تطورا في القصة التي تركت مفتوحة تحمل في طياتها كثير من الاحتمالات حول كشف لغز مقتل “عصمت” والد “يمان” ، ذلك النحات الذي تركه عمله الأكاديمي وظل يطارد خيالاته وأحلامه وهواجسه التي تقوده إلى متاهة البحث عن قاتل والده.
لقد جربنا ولمسنا خطايا الأجزاء الثانية في مسلسلات عربية كثيرة ومنها على سبيل المثال مسلسل “سرايا عابدين”، والذي كان الهجوم عليه بشدة كبيرة، ربما لأنه يصف التاريخ المصرى، وكتبته مؤلفة غير مصرية، رغم أنه كان عملا مبهر وناجحا من ناحية الديكورات التى خصصت للعمل والملابس، ولاننكر أنه كانت هناك جاذبية داخل العمل، بأداء من جانب فريق عمل احترافي على رأسه “قصى خولى، يسرا، أنوشكا، صفاء الطوخي”، وغيرهم من عشرات النجوم، وربما هناك فرق واضح بين التقييم الفنى للعمل وبين متابعته الجماهيرية، ويوجد في قلب خارطة الدراما العربية مسلسلات تم عرضها ومستواها ردىء للغاية، ولكنها حققت نسب مشاهدة عالية لأسباب أخرى، فمسلسل “سرايا عابدين” توفرت له عناصر عديدة تتيح له أن يكون جذابا فى عرضه منها كما ذكرنا ديكورات سخية جدا وملابس ومخرج جيد، ومنها وجود عدد كبير من النجوم الكبار داخل العمل، ولكن كانت المشكلة الرئيسية هى أن السيناريو يحكى تاريخ مصر بطريقة ساذجة وسطحية.
وعند تعرضا لأعمال الأجزاء من نوعية مسلسلات “الست كوم” مثل مسلسل “تامر وشوقية”، لابد من التفرقة بين مسلسلات حققت نجاحا معقولا مثل مسلسل “راجل وست ستات”، و”تامر وشوقية”، فمن الطبيعى أن يستمر النجاح وإقامة أعمال جديدة من نفس العمل الأول واستكمال الموضوع لوجود خطوط عريضة فى الكتابة، فضلا عن أن مسلسلات الست كوم هى عبارة عن قالب درامى منتشر ومطلوب لأنه يقدم موضوعات فى الحياة والمجتمع ونحتاج التوقف عندها خلال نوعية من الدراما التي تكون مدة عرض الحلقة فيها قليل بحيث لاتزيد عن الثلث ساعة وهذه النوعية ملائمة للمشاهد المزحوم والذى ليس لديه وقت أن يتابع المسلسلات ولكن يشترط أن يكون به عناصر الجودة كعمل.
ويبدو لي إن أساس العمل فى المسلسلات الدرامية التى يكون لها أكثر من جزء يتوقف على دراما العمل نفسه، فهل سيسمح بعمل جزء ثانى أو ثالث أم لا مثل مسلسل “ليالى الحلمية” قدم منه 6 أجزاء ولكن حتى الجزء الرابع كانت ناجحة جدا، وبعد ذلك لم تنجح الأجزاء التالية، وهذا يعنى أن الدراما لابد من أن يكون لها روابط وخطوط عريضة للموضوع، فمسلسل “الجماعة” على سبيل المثال كان من المفترض أن يكون له ثالث لأن هناك خطا تاريخيا متعلقا بتاريخ الجماعة لم يدققه المؤلف وحيد حامد في جزئيه الأول والثاني ، ربما حاول اسستكماله في الجزء الثانى، لكنه كان يحتمل أن يكون هنالك جزء ثالث للعمل كي يستكمل فكر هذه الجماعة الشيطانية التي تصل أعمالها التخريبية إلى يومنا الحالي من خلال ذوبانها في جماعات تكفيرية تعمل الآن في سيناء وليبيل وسوريا واليمن والعراق وغيرها من مناطق التوتر في العالم.
إن نجاح العمل لا يعتمد على النجاح الجماهيرى فقط كشرط لعمل جزء ثان وثالث منه – رغم أن النجاح الجماهيرى هو مهم جدا لنجاح العمل – ولكن الأهم الأرضية الدرامية للمسلسل فهل تحتمل مساحات وخطوط درامية كبيرة وجزء، بدليل أن مسلسل مثل “سلسال الدم” فشل فشلا زريعا رغم إصرار صناعه على الاستمرار في محاولة بشق الأنفس تحقيق جماهيرية تتناسب مع أجزائه الخمسة، و التي أصابت المشاهد في النهاية بحالة من الملل، رغم أنه يحتوى على عدد من النجوم المتميزين في الأداء الاحترافي، وعلى الرغم من أن مخرجه قال أن الأحداث والفترة الزمنية التى يناقشها المسلسل تحتاج إلى أجزاء أخرى وليس شرطا أن تكون مرتبطة بالجزء الأول.
رحم الله زمان وأيام زمان .. فقد كنا فى الماضى نقوم بعمل 15 حلقة أو 13 حلقة مكتملة العناصر والأركان الدرامية وتكفي وتفيض من متعة المشاهدة، بينما في الوقت الحالى مع وجود حالة السعار في ظل الكثير من القنوات الفضائية المفتوحة 24 ساعة يوميا – ومنها ماهو مخصص فقط للدراما – أصبحت كالمعدة المفتوحة شهيتها على مصراعيها فتلتهم كل ما يتوفر لها من نوعية “الجانك فوود” بتوابلها الحارقة، ما ساعد على عمل مسلسلات طويلة ودراما الأجزاء التي أصبحت تصيبنا بالملل تارة وتخرب الذائقة تارات أخرى، في جنوحها نحو العنف والفوضى والعشوائية والجرائم التي ترتكب في حق المرأة والطفل والعائلة دون أي وازع من ضمير.