سوبرمان الشاشة !
بقلم : محمد شمروخ
لا أدري من أين تتأتى كل هذه القدرات لذلك الكائن السوبرمان الذي يظهر كل ليلة على الشاشة لمدة لا تقل عن ساعتين يتحدث عن كل شيء ويمارس دوره القيادى في توجيه الجماهير؟!
لكن السؤال الذي يبدو أكثر غرابة: كيف للمشاهد أن يقبع طوال هذه المدة مسلما عقله ووعيه وانفعالاته لهذا السوبرمان رفض منه أم قبل.
فهذا الإعلام القائم على التلقين صار ظاهرة عالمية سيطرت على كلى الشاشات والإذاعات، فترى مقدم البرنامج السوبرمان فاهما في كل شيء متخصصا في أدق العلوم حتى ولو أتى بأحد المتخصصين فإنك تراه يخضعه فرادته وهو يمسك بمقود أفكاره ويوجهه حيث يشاء، بينما يستسلم له الضيف لأنه يدرك تماما سطوة السوبرمان ومقدار ما سيجنيه من ذيوع بعد ظهور بصحبته.
هذا الإعلام “التلقيني” المباشر – على ما يبدو علي من سذاجة – إلا أنه صار من أخطر أنواع الإعلام لأنه بأسلوبه المسرحي المؤثر قادر على جذب قطاعات كثيرة من الجماهير وما دام قد نجح في الجذب، فسهل عليه إلقاء ما يريد من أفكار ومعتقدات ومواقف، حتى يتحول من ممارسة التلقين وهو يبدو كالخائف على الجماهير من الخداع الذي يمارسه الإعلام المضاد له، لكن لا يغرنك هذا التضاد الوهمي لأن كليهما يتبعان الخطوات نفسها حذو النعل بالنعل.
ثم ما يلبث بعد تأكد نجاحه في طريقة “الإعلام التلقيني” أن ينتقل إلى “الإعلام الوصائي” وهنا يتحول سيادة المذيع الأسبق والإعلامي السابق إلى موجه “ثان” للجماهير.
أما الإعلام الذي يبقى على قواعد وأصول المهنة، فقد انزوى وصار موضة قديمة وغالبية رموزه إما تم “ركنهم” لأسباب مجهولة أو إهمالهم لأسباب معلومة.
لا أقصر هذا على الإعلام العربي وحده، بل العالمى أيضا، منذ أن طغت الصراعات السياسية واختطفت الإعلام لصالحها ترغيبا أو ترهيبا، حتى الهيئات التى كان لها تاريخ عريق في المهنة، تحولت أجهزة الإعلام تحت وطأة الصراعات، إلى أبواق للعب مصالح لكيانات جعلتها تخلع الرداء الإعلامى وتلزمها بارتداء أردية أخرى متعددة.. توجيه، سمسرة، تحريض، تسويق، وأخيرا فرض الوصاية.
ضع في تصورك أي اسم وأى صورة لى منهم ولا تفرق بين هذا وذاك ولكن فلتجرب أن تطهر عقلك من هذا الهراء الذي جعلك تظن أن موقفك نابع من قناعاتك، فأنت ليس سوى أسير لأحد هؤلاء الموجهين الليلين أيا كان موقفك السياسي أو الفكري.
وصلت الأمور إلى أن بعض الموجهين الأوائل يتهمون الجماهير بالغفلة لأنها لم تسمع نصائحهم أو بالحري توجيهاتهم وبعضهم يفقد أعصابه ويسب ويلعن وقد يوعز بأنه سيخرج “خرزانة سويسي” ليؤدب بها الجماهير الغافلة اللاواعية التى لم تستمع إلى توجيهاته لأنه هو المفكر والفيلسوف والطبيب والمهندس والمؤرخ والقاضي والمحامى وممثل الادعاء، كل هؤلاء في نفس واحد يخرج من أنف السيد الموجه الثاني الذي بلغ به الغرور أنه اعتقد أنه بالفعل سوبرمان، بينما هو في الحقيقة لم يخرج بهذه الصورة إلا ليتلو ما تم توجيهه به من الموجه أول.
لكنك قد لا تعلم أن بعضهم عند التباس الأحداث قبل سبع سنوات، حولوا مواقفهم من النقيض إلى النقيض، مع دخول مفاوضات هنا وهناك حتى استقر على السعر الأعلى بعد رسو المزاد، ثم صار تبعا لذلك مؤيدا عنيفا أو معارضا شرسا حسب المبلغ المذكور أعلاه، وقد يأتى اليوم الذي تظهر فيه الحقائق التى اختفت وقد لا يأتى، فمسألة ظهور الحقيقة مع النهاية لا تجدها إلا في أفلام الخيال الساذج في سينما الزمن الجميل.
فعندما تقلب القنوات على الشاشة تجد صراخا هنا وهناك بنفس الحركات التمثيلية مع حشد كم من المعلومات التى تغرقك في حالة من الحنق أو الرضا حسب طريقة تشكيل الدماغ وطالما حنقت أو رضيت، فاعلم إذن أنك وقعت أخيرا تحت سطوة تأثير السوبرمان وستتلقى ما سيفرغه في جوفك شئت أم أبيت.
لكنك تستحق.. لأنك أسلمت نفسك لأراجوزات الفضاء اللامحدود وستأوي إلى فراشك أو تذهب إلى عملك حانقا مقهورا بما سمعت وشاهدت، لكنك لم تعلم أن السوبرمان قد خلع كل انفعالاته التى نقلها إليك قبل أن يمد يده ليخلع “الإيربيس” ونسى كل شيء بمجرد غلق الكاميرا وراح يحسب نسبته الليلة من إعلانات الفواصل أو ينتظر ليتلقى المكافأة من السادة الموجهين الأوائل.