حكايتى مع ديزنى (16) .. الست أمينة
بقلم المخرج المسرحي الكبير : عصام السيد
كانت الحديث مع بليك تود – أو الإله كما يسمونه فى ديزنى – ممتعا و مفيدا، و الحقيقة أن توافقاً ما قد صار بيننا بمجرد اللقاء ، لذا لم آخذ ملاحظاته على فيلم بوكاهنتس بحساسية . فهو كان يرى أن راتكليف (القائد الشرير للحملة الإنجليزية) ، والذى يقوم به الفنان الكبير على حسنين يجب أن يكون أعنف مما تم تسجيله ، فالشخصية يجب أن تكون مكروهة ، و أشار إلى شكل الشخصية فى الفيلم ، وكيف تم رسمه غير متناسق الملامح برأس ضخم و أسنان بارزة و أنف كبير و معظم صوره فى الفيلم فى لقطات تظهر بشاعته بتصويره من أسفل أو باقترابه من الكاميرا ليبدو مشوها .
قلت له من هذا المنظور يجب أن نعيد تسجيل الدور بالكامل . و برغم أنه أوصلنى إلى النتيجة التى يرجوها فإنه ابتسم و قال كما تحب . ثم كانت المفاجأة فى إعتراضه على صوت الفنانة ليلى جمال فى التمثيل و موافقته على ماتم تسجيله غنائيا . نظرت إلى سمير حبيب و كأنى أقول له ( مش قلت لك ) . و لكنى سارعت بالرد قائلا : و لكنك وافقت عليها بناء على الاختبار . فى بساطة أقر بهذا و لكنه اعترف بأن النتيجة لم تصل الى مستوى توقعاته ، عرضت عليه أن تُعيد التسجيل ، و لكنه فضل البحث عن ممثلة أكبر سناً ، فشرحت له صعوبة الحصول على صوت مشابه للصوت الاصلى ، فقال : أريد صوتا يشبه أصوات الجدات ، يوحى بالأمومة و بالقدرة على اتخاذ القرار ، و ليس بالضرورة يشبه الصوت الأصلى . هنا قفزت الى ذهنى فكرة .
قلت لتود : هناك ممثلة تستطيع تأدية الدور بجودة و إقناع و صوتها سيدخل قلبك بمجرد أن تسمعه ، الى جانب أنها ممثلة عبقرية ، لكن للاسف لن نستطيع احضارها لتؤدى ( اختبار ) .
سألنى قائلا : هل من الممكن أن أرى لها أى أعمال سابقة ؟
طلبت من سمير حبيب البحث عن مشاهد للفنانة القديرة أمينة رزق – و كانت مهمة صعبة فلم يكن اليوتيوب قد تم اختراعه بعد – فأرسل لشراء مجموعة من شرائط الفيديو لأفلام بها الست أمينة و بمجرد أن شاهدها تود وافق فورا عليها ، و من باب المداعبة قلت له : ده كلام أخير ؟ هذه فنانة كبيرة مكانةً و سناً و ليس من اللائق أن نحضرها و لا تقوم بالدور .
و أثناء بحثنا عن وسيلة إتصال بالقديرة أمينة رزق ، تم استدعاء الفنان الكبير على حسنين و اتفق معه سمير حبيب على إعادة التسجيل بأجر جديد مما جعلنى أشعر بالذنب ، شخصيتين جديدتين بأجرين جديدين !! هكذا ديزنى لا يهمها خسارة الآخرين ، المهم أن يكون العمل منضبطا ، حاولت أن أداعب سمير مهونا الأمر عليه قائلا : معلش مجية الراجل ده جت عليك بخسارة .
و حضرت الست أمينة – كما كنت أناديها – و لم تلبث أن وافقت على التسجيل و كان شرطها الوحيد أن نوفر لها سيارة تنقلها يوميا من مسكنها الى الاستوديو و العكس .
و عندما قررت دخول الاستوديو لنبدأ التسجيل فوجئت بتود يستأذننى فى الحضور ، أكبرت له ذوقه و تهذيبه الشديد و رحبت به و حاولت أن أترجم له معنى الجملة المصرية : البيت بيتك . و دخل تود معى الى الاستوديو ليجلس فى الكنبة الخلفية فى صمت.
بدأنا أولا بالفنان الكبير على حسنين ، شرحت له ماقاله تود عن الشخصية و بدأنا فى العمل و لكنه بعد قليل اعترض و قال أنا حاسس إن أنا ( Over ) قوى ، فقلت له هذا هو المطلوب ، فقال و لكنى لم أتعود على التمثيل بهذه الطريقة . و خضنا نقاشا قصيرا حسمته بطلب حازم بتنفيذ ما أراه مناسبا . و أثناء النقاش حاول ديدى أن يتدخل ، فسمعت تود يهمس له : اسكت لحسن يطلعك بره . فاندهش ديدى قائلا : يطردنى ؟ فقال تود بحزم طبعا .. هذا حقه .. أليس هو المخرج.
أما الست أمينة فقد طلبت منى أن تؤدى الدور بصوت يبدو أكبر و مرتعش أكثر ، فهى ترى أن الشخصية خيالية ( شجرة متحدثة تملك الحكمة ) و بالتالى تفضل أن يكون الصوت أيضا غير طبيعى ، فقلت لها لماذا لا نجرب؟ و اتفقنا على أن نسجل عدة أسطر بصوتها الطبيعى و نفس الأسطر بالصوت الآخر .. و بعد أن استمعت للتسجيلين قلت لها : صوتك الطبيعى أجمل و أصدق . و نظرت الى تود متوقعا أن يكون قد فهم ما يحدث و لكنه لم يعلق ، فأكملنا التسجيل . و الحقيقة أن الست أمينة كانت أكثر من رائعة فى الشخصية ، و لكن لم يلتفت لها الكثيرون بسبب أن الفيلم لم ينجح كالملك الأسد .
فى نهاية اليوم ترجمت لتود ما دار مع الست أمينة و اختيارى صوتها الطبيعى خوفا من أن يكون قد فاته معنى ما حدث . و لكنه وافقنى على رأيي و أخذ يثنى على طريقتى فى إدارة الممثل و أكملنا جلستنا – التى طالت – أجيب فيها عن أسئلته عن أعمالى المسرحية.
فى اليوم التالى أكملت تسجيل الشخصيتين و لم يدخل تود إلى الاستوديو أثناء العمل ، و فى نهاية اليوم طلب أن نجلس على انفراد ، و سألنى ان كانت لى ملاحظات على طريقة العمل.
كانت المكاسب من لقائى به كثيرة فهاهو قد وافق على ممثلة بدون الاختبار التقليدى للفيلم و أيضا لا تطابق فى الصوت بينها و بين الشخصية الأصلية ، فأردت مكسباً جديداً فقلت له : لابد لى من رأي فى اختيار الممثلين ، فالثلاث ترشيحات التى أرسلها لابد و أننى أفضل أحدهم ، فقال إذن ضعه فى مقدمة التسجيل و سوف أضع هذا فى اعتبارى ، و لا مانع من أن تشير فى التقرير الى من تفضل التعاون معه ، كما يمكنك الاتصال بى مباشرة فى حال وجود مشكلة او ملاحظة لك ، ثم أضاف : أريدك أن تدرب مجموعة من مساعديك ليتمكنوا من تحمل مسئولية الإخراج منفردين
قلت له : لماذا ؟
قال : لأنك ستكون مشغولا فى متابعة هؤلاء المخرجين ، و ستكون مسئولا عنهم ، فالأعمال القادمة كثيرة و لا يمكن أن يقوم بها مخرج واحد . كما يجب عليك ان تختار استوديو آخر الى جانب هذا الاستوديو و ليكن قريبا منه حتى تستطيع التنقل بسهولة بينهما . و ابدأ منذ الآن فى البحث عمن يقومون بأدوار شخصيات ديزنى الأساسية مثل ( ميكى و مينى و دونالد دك ) ، فهى شخصيات أصواتها مميزة ، و صعب العثور عليها . و فجأة تحول تود الى شخص آخر و مضي يقلد أصوات جميع شخصيات ديزنى بحرفية شديدة و دقة متناهية – بحيث لا تستطيع التفريق بين صوته و أصواتهم – لكى ينقل لى طريقة نطق كل شخصية فيهم و كيف أدرب أشخاصا عليها .
فى نهاية الجلسة المنفردة صافحته بود شديد و إعجاب متزايد و هو يغادر الاستوديو متجها الى المطار و للأسف لم نلتق مرة أخرى وجها لوجه ، و إن كانت علاقتى الطيبة به قد سببت لى مشاكل فيما بعد.