رشدي أباظة وكاميليا .. علاقة مشتعله أطفأها الموت !
فاتنة عصرها توقعت النجومية للفتي الأباظي
“إمرأة من نار” لم يعد فيلما ولكنه أصبح حقيقة بين العاشقين
على وسادة الحب صارحته كاميليا بحقيقة الرجل العجوز الذي يصاحبها!
الشبح الأبيض ظل يطارد المرأة النارية لمدة سنة!
كتب : أحمد السماحي
كان قدر “رشدي أباظة” أن يعيش معلقاً بين قلوب النساء، يتنقل بين ألف امرأة ليحب واحدة، وحين يتوهم أن قلبه وصل إلى مرفأ الحب الحقيقي، يغمض جفونه على المحبوبة ويفتحها، فيكتشف أن الأقدار لا تريد له أن يحب مثل كل البشر، حدث هذا مع “آني برييه” المغنية الفرنسية الرقيقة، وقبل أن “يكفر” الفتى الأباظي بالحب والمشاعر الرومانسية، ظهرت في حياته فاتنة مصر كلها “كاميليا” التي وقف الجميع عند أطراف “ثغرها” الذي يرسم حدود الرغبة ومساحات العشق في العيون، بينما اعتقد “رشدي” أن الحب الصادق عاد من جديد، كان عليه أن يتجرع بعد “طرفة عين” حزن الدنيا كلها.
تعالوا بنا نعود إلى عام 1950 في ليلة من ليالي هذا العام ذهب رشدي كعاته إلى الأوبرج ليشاهد فتاته “فلورانس” وهي ترقص، لم يدر بخلده أن زلزالاً جديداً سيعصف بقلبه، فبينما كان يتابع أحاديث أصدقائه مرت أمامه امرأة كالطيف الشفاف، فشلت عيناه في تحديد مواطن الجمال والفتنة لديها، فآثر الابتعاد وبنظراته حتى لا يحترق قلبه بحب بلا أمل، فكيف له أن يصل إلى فاتنة السينما المصرية “كاميليا” ذات أجمل شفتين عرفتهما مصر حتى الآن، دخلت كاميليا بخطوات محلقة مثل راقصات الباليه، كان بصحبتها رجل على أعتاب مرحلة الشيخوخة، وجلسا إلى مائدة في مواجهة “البيست” بينما حاصرتها نظرات الجميع، حاول “رشدي” كبح جماح الغريزة الأباظية ف داخله، لكنه لم يستطع، وفشل في مقاومة خطواته التي قادته نحوها وهو يكاد يصرخ من فرط الانجذاب تجاهها وفي الطريق سأل نفسه عن هذا الرجل العجوز الذي يرافقها، وحين وصل إليها عرفها بنفسه باعتباره زميلاً في دنيا الفن والسينما، فأجابته بأنها سمعت عنه كثيراً، لكنها لم تر أعماله، ثم قالت له بشئ من رقة وإغراء الأنوثة الجامحة: عندك مؤهلات كثيرة للنجومية، وأكيد ستصبح نجماً كبيراً يا رشدي فانصرف منتشياً.
لحظات.. وكانت “فلورانس” قد أنهت رقصتها التي لم يشاهدها رشدي لأول مرة منذ عرفها، وعندما جلست بجواره بادرته بدهاء المرأة “هل رأيت كاميليا؟” فسألها: هل تعرفينها؟ فأجابت: طبعاً، فالراقصة الناجحة لابد أن تعرف كل رواد الصالة، و”كاميليا” تأتي هنا كثيراً بصحبة هذا الرجل، فهي تحبه للغاية، رغم ما يتردد عن حبها للملك “فاروق”، وفي نهاية السهرة كانت “فلورانس” قد اكتشفت ما يدور في داخل فتاها الأباظي، وانصرف كل منهما مع إحساس جديد ومختلف عن الآخر، هو بحب وليد يهاجم قلبه الخالي منذ رحيل “آني برييه” و”فلورانس” بسؤال مخيف وهاجس مزعج ينذر بضياع “رشدي” منها.
في هذه الليلة فضل “رشدي” العودة إلى منزل والدته في الأوبرا بعد غياب عدة أشهر قضاها مع “فلورانس”في فندق “ميناهاوس”، وفي الصباح أحضرت له أمه الإفطار وجلست أمامه وهو يحكي لها ما حدث طوال فترة الغياب، وبعد أن تناول طعامه طلبت منه أن يذهب لزيارة والده – حكمدار بنها آنذاك – حتى يرى إخوته “رجاء ومنيرة وزينب وفكري” الذي ولد قبل عدة أشهر، لم يكن هدف الأم سوى مطالبة ابنها بحقه من أبيه، فرفض “رشدي”، لكنه رضخ أمام إلحاح والدته، وركب سيارته متوجهاً إلى بنها، وفي منتصف الطريق، عادت إلى ذاكرته تفاصيل المواجهة الساخنة التي طرده بعدها والده بسبب إصراره على العمل في السينما، ولأنه لم يحقق النجومية بعد، فقد خاف من نظرات “الشماتة” في وجوه كل أفراد الأسرة، وكان الحل أن يدير عجلات السيارة عائداً إلى القاهرة، وقرر ألا يذهب إلى والده إلا وهو نجم سينمائي كبير.
في المساء ذهب إلى “الأوبرج” فاستقبله العاملون هناك بحفاوة شديدة، وقبل أن يدخل إلى الصالة لمح سيارة الملك فاروق قادمة، فآثر السلامة وركب سيارته وعاد إلى “الميناهاوس” وحيداً ينظر إلي صفحة الماء، مرة تتجسد عليها صورة آني برييه، وأخرى تطل منها ملامح وقسمات كاميليا الحسناء، وقبل أن يرحل مع الأوهام، وصلت “فلورانس” وعرضت عليه السفر إلى الإسكندرية لتغيير الجو، فسألها عن السبب الحقيقي، فصارحته بأنها تراه “غير طبيعي” خلال الأيام الأخيرة. لكن الحقيقية أن “فلورانس” كانت تسعى إلى إبعاد “رشدي” عن “كاميليا” ، فهي تعرفه جيداً، وتدرك أنه لن يتركها تذهب بعيداً، وفي نهاية النقاش وافق “رشدي” واتفقا على موعد السفر في اليوم التالي.
في الصباح كان القدر يخفي للفتى الأباظي خبراً سعيداً، حيث تلقى اتصالا من والدته التي أخبرته بأن المخرج الإيطالي “جياني فيرنتشو” اتصل به ليطلبه للعمل معه في فيلمه الجديد، فكاد رشدي يطير من فرط الفرح، وتوجه مسرعاً إلى شركة الإنتاج، وقابل “فيرنتشو” الذي سلمه سيناريو الفيلم، وطلب منه قراءته جيداً على أن يلتقيا بعد يومين، وعاد رشدي إلى منزله في الأوبرا وهو يحتضن السيناريو، ودخل غرفته وأغلق الباب، وجلس على سريره يقرأ الفيلم، وفي الصفحة الأولى كانت المفاجأة التي أصابته بارتجافة لذيذة، إذ قرأ البيانات وهو لا يصدق ما يقرأ: اسم الفيلم “امرأة من نار” بطولة: “كاميليا ومختار عثمان”، وتسمرت عيناه على اسم “كاميليا”، وراح في نشوة غامرة.
سأل رشدي نفسه: هل رشحتني هى للدور أم رشحتني الجالية الإيطالية؟ لم تكن الإجابة هي القضية، فثمة عدة مشاهد في السيناريو سوف تجمعه مع “كاميليا” معظمها مشاهد ساخنة وفي غمرة السعادة نسى موعده مع “فلورانس”، ولم يتذكره إلا في نهاية اليوم، فاتصل بها فوجدها غاضبة بشدة، وأخبرها بحكاية البطولة الجديدة، وعندما علمت أن البطلة هى “كاميليا”، طلبت منه أن يعتذر عن الفيلم، لكنه رفض بعد أن أدرك أنها تريده بجوارها حتى لو كان ذلك على حساب مستقبله، وفي هذه اللحظة قرر “رشدي” وضع نهاية لهذه العلاقة.
القبلة الساخنة
جاء أول يوم تصوير بعد انتظار طويل، وذهب “رشدي” إلى استوديو مصر، وهناك رحب به الجميع، وبعد لحظات أخبره مساعد المخرج بالاستعداد لتصوير أول مشاهده أمام البطلة “كاميليا”، وفي البلاتوه وجد “كاميليا” تقف مع المخرج الذي شرح لهما المشهد وأخبرهما بأنه سينتهي بقبلة طويلة بينهما، ودارت الكاميرا، وبدأ المشهد، والتقى الاثنان في قبلة ساخنة مزجت بين التمثيل والرغبة، وكانت “القبلة” بداية لقصة حب بين الاثنين، تحولت فيما بعد إلى حديث الناس في الوسط الفني، ومصر كلها.
توالت مشاهد الفيلم وفي أثناء التصوير وجهت “كاميليا” الدعوة للجميع بالسهر في منزلها بعمارة “الإيموبيليا” وبين جموع الفنانين أبدت الفاتنة الشهيرة اهتماماً خاصاً بالفتى الأباظي، تجلس بجواره وتبادله الحديث في أمور شتى، لكن “رشدي” كان غارقاً في سؤال واحد حول سر هذا الرجل العجوز الذي يجلس في صمت غريب، إنه ذات الرجل الذي شاهده معها في الأوبرج، ولم يكن ممكنا أن يظل على حيرته، فقرر بجرأته المعروفة أن يسألها، فكانت إجابتها أقرب إلى الهروب المؤقت، حيث قالت له: بعدين يا “رشدي” سأشرح لك كل شئ، ثم دعته إلى الرقص، وقذفت بنفسها بين أحضانه، وظلا يرقصان لفترة طويلة، حتى قالت له برقة:
ألا تتعب من الرقص؟
فرد: ومن يتعب وهو يرقص معك؟
كلامك معسول مثل معاكسات أولاد البلد.
فقال ضاحكاً : يقولون عني “ابن بلد”.. لكن “بك”
فقالت: وأنا بنت بلد من أثينا.
انتهت السهرة وعند الباب ودع رشدي أباظة كاميليا مقبلاً يديها، وتسمرت عيناه وهو ينحني أمامها ليواجه الرجل الصامت “دائما” فانصرف بنفس السؤال الذي أثار حيرته طوال السهرة، وتوالت أيام التصوير وسط أجواء المرح التي كانت تنثرها كاميليا بين الجميع، لا سيما “قفشاتها” المرحة مع مساعد المخرج “يوسف شاهين”، وفي إحدى ليالي السهر في شقتها كانا يرقصان كالعادة فهمس رشدي في أذنها قائلا: كان الله في عونك
فقالت: ليه؟!
فأجاب: واضح أنك تدفعين أكثر من أجرك في الفيلم ثمنا لزجاجات الويسكي التي نشربها.
فقالت بلهجة حزينة : العمر قصير.. فلماذا لا أعيش كما أحب.
وكادت تفر دمعة من عينيها، فقال لها رشدي: لست “كاميليا” التي أعرفها، فأجابت بحسرة وأسى: أنت لم تعرف “كاميليا” بعد، ثم همست في أذنه، وطلبت منه عدم الخروج مع الضيوف في نهاية السهرة، وبالفعل خرج الجميع، وبقى “رشدي” على وسادة الحب قالت له: أنا أكره الكذب، لذا يجب أن تعلم أن في حياتي رجلا آخر ينفق علي، فبدت عليه علامات الضيق والغضب، فاستطردت: أقسم لك أنني لم أمنحه ما منحتك اليوم، فقد تجاوز الستين من عمره، ويدفع لي 2000 جنيه شهريا، وهو الذي اشترى لي السيارتين “الكاديلاك والستروين”، كما أنه يشتري لي ثيابي من أوروبا، ويرسلي صناديق الويسكي، بل إنه يعلم أنني أشربها مع غيره، إنه يحبني حبا لا يوصف، ويمتلك قلبا من ذهب ولا يفكر إلا في إسعادي.
كاريوكا تظهر مرة أخرى
هكذا.. اخترق رشدي أباظة قلب فاتنة السينما المصرية “كاميليا”، وأصبح كل شئ في حياتها، لكن يبدو أن الراقصة الشهيرة “تحية كاريوكا” تطل على حياته من آن إلى آخر في مشاهد متقطعة وتنذر بقصة جديدة ومثيرة قادمة فيما بعد، ففي أحد أيام التصوير جلجل صوت مدو في البلاتوه، ودخلت “تحية” وهي تطلق ضحكاتها مع الجميع وتوجهت إلى “كاميليا” وهنأتها على الفيلم، ثم التفتت إلى “رشدي” وقالت له ضاحكة: “يا بختك بتمثل مع قمر 14 أكيد دي فرصة جيدة لإظهار إمكاناتك”، ثم أحضر سائقها بعض الحلوى وقام بتوزيعها على العاملين في الفيلم، ثم انصرفت “تحية كاريوكا” وكأنها طيف جاء سريعا ورحل سريعا.
كاميليا.. والشبح
بعد انتهاء تصوير الفيلم دعا “رشدي كاميليا” على سهرة في “حلمية بالاس”، الذي كان وقتها من أشهر الملاهي الليلية في القاهرة، وفي طريق العودة بعد انتهاء السهرة لاحظ “رشدي” أن الصمت يحتوي “كاميليا” ويلفها حزن غريب، وحين وصلا إلى بيتها ألقت بنفسها على المقعد، بينما دخل هو غرفة النوم وجدها متشحة باللون الأسود، فخرج إليها متسائلا عن سبب اختيارها لـ “ملاءات سوداء” في الغرفة، وطلب منها رفعها فورا، فردت عليه بصوت مذبوح:
لماذا تهرب ؟ فاللون الأسود هو لون الحزن ألا يستحق شبابنا الذي ضاع قبل الأوان أن نحزن؟
فرد: لا أفهمك الليلة يا كاميليا.
فقالت وقد ذرفت دمعة وحيدة:
نحن نمشي في أكفاننا، الموت هو الحقيقة الوحيدة التي لا تقبل التشكيك، فكل شئ في الحياة لا يقين فيه.
أثارت كلماتها خوفا دفينا في قلب “رشدي”، وشعر بأن جرحا عميقا أصابه، فأحتضنها بقوة وكأنه يريد أن يحميها من أي مكروه، وفي أحضانه راحت “كاميليا” في نوم عميق، لكنها انتفضت صارخة: جاء الشبح مرة أخرى يناديني، فسألها رشدي: أي شبح؟ فأجابت بمزيج من الفزع والحزن شبح أبيض يقتحم نومي منذ عام ويناديني كي أتبعه، ثم أخفت رأسها بين ذراعيه وهى تقول بأسى: لن تفهمني حتى تسمع نبأ وفاتي!.
بعد شهرين من هذه الواقعة، وبالتحديد في 31/8/1950 سقطت طائرة ركاب وسط الحقول وتفحمت جثث ركابها، وصدرت الصحف في اليوم التالي بنبأ مصرع النجمة “كاميليا” بين ضحايا الطائرة المشئومة، وبعد موتها كثرت الشائعات حول ملابسات الحادث، دون أن يصل أحد إلى الحقيقة، وتلقى الفتى الأباظي الخبر بانهيار تام، وراح في غيبوبة كاملة حزنا على “حبه الأكبر”، وكلما أفاق كان يردد اسمها، ثم يروح في الغيبوبة مرة أخرى، وجاءت “تحية كاريوكا” لزيارته وهي “تحبس” الدموع في عينيها، وربتت على كتفه وهى تقول: أنا عارفة إنك كنت بتحبها، وهيه كمان كانت بتحبك قوي، وصارحتني بحبها أكثر من مرة، وكان نفسها تكون أحسن ممثل في مصر، وعلشان كده لازم تريحها في قبرها وتترك السرير وتنزل الشغل، وأوعدك أنني هفضل بجوارك دائماً .. وبدأ فصل جديد من حياة “الدنجوان” الجريح.