حكايتى مع ديزنى (15) .. أمريكى كامل
بقلم المخرج المسرحي الكبير : عصام السيد
جلست مع سمير حبيب نراجع التقرير المرسل إلى ديزنى والمرفق بتسجيلات فيلم بوكاهنتس، ولأول مرة يسألنى سمير حبيب: هل أنت راضٍ عن هذه التسجيلات ؟، هل أنت مطمئن أنها ستعجبهم وتنال رضاهم؟، إندهشت من السؤال وسألته بالتالى لماذا يسأل؟
قال لأن الشخص القادم الى القاهرة هو المسئول عن عمليات الدوبلاج لكل أفلام ديزنى فى أى لغة والتى قد تصل إلى أكثر من 25، إنه “بليك تود” نائب رئيس القسم العالمى للأصوات (Disney Character Voices International ) والذى يلقبونه فى ديزنى (الإله)، وهو من القلائل الذين عاصروا والت ديزنى شخصياً وعملوا معه ومازالوا يعملون بالشركة، وحالياً يعتبر رقم إثنين بها، ولو خرج من زيارته بأى ملاحظات سلبية فلن تكون فى مصلحتنا.
قلت مستفزا: جاى يفتش علينا؟
قال: ليس تفتيشا، فهذا هو عمله الأساسى، لكن زيارته ستشمل التأكد من قدرتنا من الناحية التقنية والهندسية على تنفيذ أعمال ديزنى، التى ستتوسع، هل تعلم كم فيلما فى مكتبة ديزنى؟ وربما ضمت أعمال الدوبلاج المسلسلات أيضا إلى جانب الأفلام، فلديهم قناة تليفزيونية تذيع حاليا باللغة الانجليزية، ولهذا قسّمت الاستوديو الرئيسى إلى اثنين وسأنشئ استوديو ثالث فى الجانب الآخر من المبنى بجوار غرفة المونتاج. ويهمنى أن يخرج الرجل بانطباع جيد يكمل انطباع الشركة عنا بعد فيلم (الأسد الملك). ولذا أسأل عن نتيجة التسجيل فى بوكاهنتس.
قلت: أنا مطمئن للنتيجة التى وصلنا إليها، فيما عدا أمر واحد، بصراحة صوت الاستاذة ليلى جمال فى التمثيل أصغر من الأصل بكتير، ولو أنا مكان ديزنى مش هوافق عليه.
كانت الفنانة الكبيرة ليلى جمال من الفنانات الرائعات تمثيلا وغناء ومن الموهوبات اللائى لم يأخذن حقهن من الشهرة بما يتناسب مع موهبتهن، وفى فيلم بوكاهنتس كانت تقوم بدور (العمة ويلو) وهى شجرة روحية عمرها مئات وربما آلاف السنين وتعبر عن روح الطبيعة، ولها مشاهد هامة فى الفيلم تمثيلاً وغناءً، و قد اختاروا فى النسخة الأمريكية ممثلة تمتلك صوتاً له طبيعة خاصة، إذ أنه صوت حاد كثير التموجات كأصوات الساحرات المُسنّات، و لكن به طيبة وحنان وفى نفس الوقت يعطى إحساسا بأن صاحبته تخطت المائة عام، وهو صوت يكاد أن يكون نادر الوجود فى الممثلات المصريات، وأى محاولة لتقليده ستكون فجة وغير مُصدقة، خاصة أنهم فى ديزنى لا يحبون الأصوات المستعارة.
قال لى سمير وما الحل ، فقلت له بثقة: بس احنا بعتنا لهم اختبار لصوت الأستاذة ليلى جمال تمثيلاً و غناءً وهما وافقوا عليه. يعنى مش مسئوليتنا .. مالناش دعوة.
كان حديثى يتضمن إحساساً سلبياً تجاه الشخص القادم من ديزنى، فبعيداً عن أننى أكره فكرة (المفتش) فى الفن، فإن لدى تصور مسبق سيئ للغاية عن الأمريكيين نتاج عدم معرفتهم بمصر، فعظمهم يمنى نفسه بالحضور للقاهرة لكى يركب الجمل فى شوارعها ويداعب التماسيح فى نهر النيل، ومساء يعيش أجواء ألف ليلة وليلة، وإذا كان ممن يعرفون أن مصر بلد متحضر فإنهم يتصورون أن كل أبناء العالم الثالث فقراء فكراً و فنا، وأنهم قادمون إلى البلد المشاغب الذى كان يحكمه “الجنرال ناصر”، والذى وقف فى وجه مصالحهم فى المنطقة لأنه يميل للشيوعية – فهكذا كانت الآلة الإعلامية الغربية تردد باستمرار – ثم جاءوا هم لينقذونا مع مرحلة (99% من أوراق اللعبة فى يد أمريكا) وإذا كان السيد ديدى ( النصف أمريكى ) يعاملنا بمثل هذا التعالى فكيف سيعاملنا (أمريكى كامل) وأيضا يلقبونه بالإله.
وفى اليوم الموعود ذهب سمير حبيب بنفسه إلى المطار لاستقبال بليك تود، على وعد بأن ألتقى به فى اليوم التالى بعد أن يستريح من عناء الرحلة، و لكن سمير استدعانى فى نفس اليوم، فالرجل أصر على الحضور الى الاستوديو فور وصوله برغم ساعات الطيران الطويلة التى تقترب من العشرين ساعة، قلت لنفسى: ابتدينا بقى !!!
فى الاستوديو إلتقينا، لم أصدق فى البداية أنه ذلك الشخص الذى حدثنى عنه سمير حبيب، رأيت رجلاً طويل القامة بشكل ملفت يتوجه شعر فى بياض الثلج، بشوش الوجه ورغم انه تخطى سن الشباب مازال ذو جسم رياضى وفى قمة النشاط والحيوية ومن فرط نشاطه لا يمكن أن تصدق إنه تخطى عامه السبعين، يتحلى بهدوء الواثقين المتواضعين ويجيد الاستماع للآخرين، و بمجرد أن إلتقينا أحسست أننى رأيته من قبل، وأكّد سمير لى أننى بالفعل رأيته من قبل، ولكن على الشاشة، فى فيلم 100 مرقش ومرقش المنتج عام 1961. فقد رسمه والت ديزنى فى شخصية صاحب الكلاب روجير (أو راجى فى النسخة العربية) و برغم السنوات الطوال لم يتغير شكله كثيرا.
جلسنا فى مكتب سمير بعد جولة فى الاستوديو نتحدث عن النسخة العربية للأسد الملك وكيف أنه معجب بها ولها تقدير كبير عنده، وكان لابد أن أسأله كيف يحكم على الأصوات فى لغات لا يفهمها، فذلك ما كان يبهرنى فيه. ابتسم وقال أن هناك فى كل فيلم أجزاء من الحوار تعتبر مفاتيح لكل شخصية، وعندما يستمع الى نفس الكلمات بأى لغة يجد أن الإحساس قد وصله يوافق على الشخص، فالكلمات هنا ليست لها أهمية، بل هى مجرد وعاء لأحاسيس.
تذكرت على الفور ما كان يقال عن سارة برنار الممثلة الفرنسية العظيمة – التى عاصرت القرنين التاسع عشر و أوائل العشرين – و كيف طلبوا منها فى حفل أن تقدم لهم شيئا من موهبتها المتدفقة فما كان منها إلا أنها مضت تَعُد من واحد إلى عشرة فأبكت الموجودين، ثم أعادت العد من واحد الى عشرة مرة أخرى فأضحكتهم، و كذا نقلت الإحساس دون كلمات.
ثم ذكر لى تود – كما طلب منى ان أناديه – كيف أن شركة ديزنى أصرت على إنتاج نسخة من فيلم (الأسد الملك) بلغة قبائل الزولو، تحية للمكان الذى استلهموا منه أجواء و إيقاعات الفيلم – فالصرخة الأولى فى بداية الفيلم بلغة الزولو وكذلك كلمات الكورال فى الأغنية الافتتاحية والكلمات غير المفهومة التى ينطق بها رافيكى – و حكى لى بالتفصيل كيف سافر بنفسه الى أفريقيا الجنوبية بحثا عن أصوات لدبلجة الفيلم، وقال لى أن جميع من قاموا بالأدوار فى تلك النسخة لم يكونوا من الممثلين المحترفين بل من السكان الأصليين، حيث قام بالبحث فى المدارس عمن يقوم بدور سيمبا ونالا وتكفل طلاب المدارس بإحضار مجموعة من أهاليهم ومعارفهم ، واختار منهم تود بقية الشخصيات ودربهم على التمثيل بالرغم من عدم معرفته بلغة قبائل الزولو، فهو لا يتحدث سوى الإنجليزية و بعضا من الفرنسية .
وبرغم عائق اللغة استطاع الانتهاء من الدوبلاج – بلغة الزولو التى لا يعرفها – فى موعد مناسب لتصدر النسخة الأفريقية فى نفس يوم إصدار النسخة الأمريكية ليصبح (الأسد الملك) أول فيلم لديزنى ينطق بلغة افريقية، ولم يكن هذا هو السبب الوحيد ليطلقوا عليه لقب الإله !!!