بقلم : محمد حبوشة
إن التمثيل – بحسب أرسطو في كتابه فن الشعر – ليس مجرد الوقوف أو التحرك فوق منصة مرتفعة، ونطق كلمات الدور بصوت جهوري، مرتعش، بل هو حالة وجودية متميزة تثير في ذاتها مجموعة من الازدواجيات المعقدة التي تجعل من فن الممثل أكثر موضوعات الفن المسرحي صعوبة ، والتمثيل هو حرفة الممثل ومهمته تجسيد وتفسير الشخصية المسرحية المحاكاة عن طريق التعبير القولي، والجسمي، والشعوري، ومن أجل ذلك يتطلب التمثيل الإلمام بكافة التفاصيل والإدارك التام لفعل الحركة والسكون والاهتمام إلى حد “الهوس” بكل ماهو جديد على مستوى التكنيك في الأداء.
والفنان الذي اكتب عنه مهووس بفن التمثيل وصولا إلى حد الأداء الساحر في الدراما، هكذا يمكن وصفه في جملة بسيطة تكشف عن جوهر الفنان داخل هذا الممثل السورى الذي بدأ حياته “عابدا في محراب الدراما”، فمنذ إطلالته الأولى وحتى اليوم استطاع أن يلامس شغاف قلوب محبي التمثيل وهو يعبر عن المشاعرالإنسانية الصادقة دون أدنى عناء يذكر، فهو يقوم في كل دور يجسده على الشاشة بالعزف جيدا على أوتار القلب والعقل معا في “سيمفونية” رائعة أو “كونشيرتو” راق، كي ينتج لنا في النهاية قطعة فنية مغايرة على مستوى الشكل والمضمون، ومن ثم يمكنه من خلالها الوصول بسهولة ويسر إلى بواطن النفس البشرية الخفية، تاركا فيها أكبر الأثر عبر أداء احترافي جاذب يتسم بالجدية والعذوبة في آن.
إنه النجم السورى المعجون بموهبة طاغية “عابد فهد” الذي أصبح علامة بارزة من علامات الدراما الرمضانية، حيث يطل في كل عام بعمل أو اثنتين يغرد من خلالهما خارج السرب بأفكار جريئة وأداء جاذب على جناح الإثارة والتشويق، لذا تجد جمهوره دوما يتعطش إلى فنه الراقي في انتظاره بشوق من موسم لآخر، خاصة أنه يملك القدرة في كل مرة على تجاوز المستحيل بثقة ودأب، ويقدر على الفكاك وأشواك وعثرات الدراما الحالية التي تكرس في غالبيتها لمناخ من الفوضى والعشوائية، ربما لأنه يعى حقيقة عيوب الدراما العربية الحالية، أو لأنه بالأساس فنان يملك وعيا صادقا بقضايا وطنه وأمته، حاملا فوق أكتافه هموم وآلام وأحزان وانكسارات هذه الأمة في لحظة تاريخية أقل ماتوصف بالضبابية.
فنان بهذا المعنى والمبنى للشخصية لابد أن تقف أمامه بقدرهائل من التقدير والاحترام، بل لابد أن تمنحه أوسمة من الفخار التي تزين صدره بالحب والاحترام جراء ما قدمه للدراما العربية حتى ولو لم يحالفه الحظ في بعض منها، خاصة إذا كان فوق هذا وذاك هو فنان مثقف من ثقافة رفيعة، ويملك في الوقت ذاته روح المغامرة بالمال والجهد والعرق الفني الخالص لعروبته، ورغم مسيحيته، تجده غارقا في التراث الإسلامي ينهل من شخصيات بارزة ومواقف شائكة صانعا ملاحم لاتنسى في تاريخ الدراما العربية (الحجاج 2003 – الظاهر بيبرس 2005 – سمرقند 2016 – هارون الرشيد 2018)، ولم يتقصر على ذلك بل تطرق إلى قضايا التطرف (دعاة على أبواب جهنم 2006 – الطريق إلى كابل “والذي لم يكتمل” – عندما تشيخ الذئاب 2019).
وفي مجال الفانتازيا التاريخية برع “عابد فهد” في (الجوارح – الفوارس – الكواسر – الزير سالم) وغيرها في ملاحم تاريخية سورية كـ ( أيام الغضب – حمام القيشاني ) وغير ذلك من قضايا متنوعة ما بين الشأن العربي مثل (أنشودة المطر- هدوء نسبي – عرب لندن)، والفلسطيني (أنا القدس)، والسوري في ظل الأزمة وغيرها ( الولادة من الخاصرة – سنعود بعد قليل – سيرة آل الجيلالي – منبر الموتى – بقعة ضوء – جلد الأفعى – دقيقة صمت) وغير ذلك في مجال التشويق والإثارة ( لو – لعبة الموت – طريق – قلم حمرة ) وصولا إلى (حكايات وبنعيشها: كابتن عفت) وآخر محطاته المهمة في رمضان 2020 بمسلسلي (هوس والساحر).
والحقيقة أنني على العكس تماما من كل الآراء التي وردت في انتقاد أداء “عابد فهد” في رمضان هذا الموسم ،عبر مسلسلين لم يكتملا جراء ظروف قاهرة طرأت على العالم في ظل جائحة كورونا، بل أرى أن مسيرة النضج الفني التي يمر بها “فهد” متواصلة ولاتنقطع أبدا، بل يلحقها كثير نا التطور والتألق من سنة إلى أخرى ومن مسلسل لآخر، على مستوى التكنيك في الأداء وفق متطلبات الشخصيات التي يؤديها، ففي هوس لجأ “عابد” إلى أسلوب نفسي في الأداء، ربما لامسه قليلا في بعض أعماله (لعبة الموت)، ولكنه هذه المرة قدم أداءا أراه بديعا رغم كم العراقيل التي واجهت المسلسل، فقد استطاع بموهبته الفنية الفذة، وفي ارتجال خاص الإمساك بتفاصيل الشخصية الدرامية، حيث قدم دور جراح تجميل يدعى الدكتور “زياد”، تتعرض زوجته “راما” هبة الطوجي لحادث تدخل على إثره في غيوبة طويلة، ما يضعه في وضع نفسي معقد تتداخل فيه الأحداث، لتكشف عن الكثير من المفاجآت والتفاصيل المثيرة من خلال 11 حلقة فقط.
فيما كشف “عابد فهد” عبر شخصية “زياد”، وفي جرأة غير معهودة لكثير من النجوم العرب عن خط درامي فريد، يختلف شكلاً ومضموناً عن بقية أدواره السابقة، فهو يرتكز هذه المرة على مسارات نفسية شائكة، يراهن من خلال مجددا على موهبته وقدرته على الولوج في أدق تفاصيل الشخصية وصراعاتها المعقدة، إلى حدود التماهي الكلي معها وإقناع الجمهور بجدوى محاولاته المشوبة بمرض نفسي عضال، ليقدم لنا دراسا أكاديميا وعمليا في آن واحد، يقول فيه “إن فن التمثيل هو فن الأداء الحركي، أنه لون من ألوان التعبير، وتجرى عملية التعبير بأن تحس بالشيء وتنفعل به وتجسمه وتبرزه”، وأكد على حقية مؤداها أن “الفن التمثيلي على أى صورة من صوره فن أدبي يعتمد على بلاغة الحوار الذي يترجمه الأداء، وهذا أدب اللغة كما يعتمد على بلاغة البناءالروائى، وهذا أدب الرواية أو ما نسميه الفن الدرامي”، ذلك كله ربما شعر به المشاهد عبر أدائه العذب في تفرد وبراعة، رغم أن القصة لم تكتمل تفاصيلها على نحو يفضي إلى نتائج نهائية تغلق أبواب الرواية، إلا أن أداءه كان أبلغ من أية نهاية.
أما في مسلسل “الساحر” الذي هاجمته أقلام كثيرة واتهمته بأنه يفتقد للسحر في مسلسل “الساحر”، حيث لا توجد أرضية مُقنِعة، ومن ثم فقد ظهر مهزوز البنية، ركيك الجدران والأعمدة، والنتيجة: سقوط حتمي – بحسب قلم ناقد موتور- يدعي المسلسل قصّة تتراءى شيّقة، عنوانها العريض لعبة القدر، لكنها شهدت فتور الأداء، ونمطية التجسيد عند “عابد فهد”، لكني أري أنه نجح في حبس أنفاس الجمهور الذي يتابع على امتداد الشهر الفضيل عبر 17 حلقة فقط هى العمر الزمني لمسلسل (الساحر)، واستطاع وبجدارة الممثل الذي يملك حنكة وإدراك عالى جدا في الألمام بكل تفاصيل شخصية.
وقد لاحظت أن “عابد فهد” كان منحازا هذه المرة نحو تجسيد شخصية الرجل الذي طحنته الشدائد وقسوة الحياة، لتسلمه إلى بر أمان “وهمي” من خلال حى شعبي صغير في لبنان، ألقى فيه همومه وأحزانه، مندفعاً نحو توفير قوته اليومي بطريقة غير نظامية حيث يحصله بشق الأنفس وفي ظروف قاسية، من خلال العمل منسقاً موسيقياً (دي جي) في أفراح ومناسبات وسهرات مختلفة، وتقوده الصدف إلى لقاء “كارمن”، المرأة الغنية المخدوعة في زوجها الخائن والغدار، ما جعلها تعاني أزمة شك مستمرة في زوجها “عاطف” المتحكم في تركة والدها، والطامع في مكانتيه اجتماعية وسياسية تفوق إمكاناته.
تتوالى الأحداث في مسلسل “الساحر” وتشهد نوعا من التصعيد الدرامي تدريجياً، لتدفع البطلة “كارمن” أو ستيفاني صليبا، في لحظة يأس عابرة، إلى منزل الغجرية “عزيزة” رشا بلال، وهى تلوذ إليها في يأس من تصرفات زوجها لتكشف لها طالعها، لكن الظروف – في ظل غياب الغجرية – تسوق إليها “مينا” عابد فهد، الذي يجد نفسه وقد زج به رغما عنه في سلسلة من التجارب والمغامرات التي غيرت مسار حياته وقلبته رأسا على عقب، حيث وجد نفسه “منجما” و”ساحرا” يفتن قلوب النساء ويخلب أفئدتها بكلامه العذب الذي يسري كالسحر في نفوس الطبقة المخملية في المجتمع خاصى أنه يرضي ضعف من يلتجئ إليه باعتباره الملاذ الآمن وكاتم الأسرار.
والمتتبع لأداء “فهد” في هذا المسلسل، الذي كتبه حازم سليمان وأخرجه شقيقه عامر فهد، يلاحظ الجهد الواضح الذي بذله كل فريق العمل، على مستوى صياغة ملامح شخصية البطل وعمقها الإنساني من ناحية، وبعض تفاصيل مظهره الخارجي من ناحية أخرى، مايعكس بوضوح تفرد النجم السوري “عابد فهد” في تقديم إحدى أجمل الشخصيات الدرامية لهذا العام، من حيث الإثارة والتشويق اللتين حققهما بفعل مدرسة الفعل الجسماني في شكل يجمع بين الأداء التراجيدي والكوميدي في ثوب بديع، ولعل وجوده داخل قصة اجتماعية تشمل ترددات واقعية كشفت عن أزمة اللاجئين السوريين في لبنان، وعدد آخر من القضايا الإنسانية والاجتماعية والسياسية الأخرى قد ساهم في نجاح تجسيد “عابد”، بطريقته تفرد بها في الأداء ببراعته المعتادة.
ويبدو ملحوظا أيضا في هذا المسلسل ألا تغيب المأساة السورية عن تفاصيل أعمال عابد فهد هذا العام أيضا، على غرار “سنعود بعد قليل”، وإن كان بشكل ضمني وغير مباشر، سواء عبر دوره في مسلسل “الساحر” الذي يكشف فيه البطل عن بعض أوجه معاناته وشقيقه الأكبر ورحيلهما القصري عن بلدهما، خصوصا ما جاء عبر حوارات أخرى على لسان شخوص العمل، أو تلك “المونولوجات” الداخلية الرائعة للبطل “مينا” في لحظات الشرود والتأمل، أو في مسلسل “هوس” الذي يكشف منذ الحلقة الأولى عن مبادرة تكريم خاصة يتلقاها البطل الطبيب (زياد) من قبل جمعية طبية فرنسية، جراء جهوده في ترميم وجه الطفلة السورية “فرح”، واستعادتها الأمل في الحياة بعد تجربتها الأليمة مع الحرب الدائرة الآن.
الحديث يطول ويصبح ذو شجون وشئون عندما نتكلم عن قائمة الأعمال والمسلسلات التلفزيونية التي شارك فيها المبدع “عابد فهد”، منذ انطلاقته أوائل الثمانينات من خلال “المرايا في مواسم (84- 86- 88)، وصولا إلى محطتي “الساحر وهوس” 2020، وقد حصد خلال تلك الرحلة بها العديد من الجوائز، أبرزها ذهبية مهرجان قرطاج لأفضل ممثل عن شخصية الحجاج بن يوسف الثقفي، وذهبية مهرجان القاهرة عن أدائه لشخصية الظاهر بيبرس، وجائزة أفضل ممثل عربي في عام 2013، وجائزة “الموريكس” لأفضل ممثل عربي عن دوره في مسلسل “طريق، وذلك كله في أعقاب أن عرف الجمهور موهبته الفنية في سلسلة عبر أدوار صغيرة في “مرايا الفنان السوري ياسر العظمة)، قبل أن تتاح له فرصة العمل مع أغلب مخرجي الدراما السورية في عشرات المسلسلات الاجتماعية والتاريخية الناجحة، والتي تؤكد هوسه بفن التمثيل ليأتي في كل مرة بأداء ساحر يخطف قلوب وعقول عشاق فنه الجميل.