حكايتى مع ديزنى (14) .. بوكاهنتس
بقلم المخرج المسرحي الكبير : عصام السيد
كان الفيلم التالى الذى استدعانى سمير حبيب من أجله هو فيلم “بوكاهنتس”، وهو من حيث التصنيف يقع فى منطقة مختلفة عن باقى أفلام ديزنى للرسوم المتحركة ، فالفيلم لا ينتمى لمجموعة قصص الجنيات أو حكايات الحيوانات وليس به حكاية خيالية، بل هو عن شخصية حقيقية فى التاريخ الأمريكى عاشت فى القرن السابع عشر فى بدايات احتلال أوروبا لقارة أمريكا الشمالية.
كانت بوكاهنتس (و اسمها الحقيقى ماتواكا) إبنة لأحد زعماء قبائل السكان الأصليين لأمريكا أو ما يطلق عليهم الهنود الحمر ، وفى القصة الحقيقية تم أسر الأميرة فى المعارك بين الانجليز و السكان الأصليين و طلب الانجليز فدية من أجل الإفراج عنها، وخلال فترة الأسر تحولت الأميرة الى الديانة المسيحية وعندما سنحت لها الفرصة للعودة الى قبيلتها رفضت، وفضلت البقاء مع الانجليز وتزوجت من تاجر تبغ وسافرت معه إلى إنجلترا وهناك توفت قبل أن تبلغ الثالثة والعشرين .
أما فيلم ديزنى فلم يلتزم بالقصة الأصلية – إلا قليلا – لأنه يعالج قضية حساسة، فسمحت ديزنى لنفسها بالتغيير فى التاريخ، سواء على مستوى الأحداث أو المعانى فنحن أمام حملة إنجليزية يقودها (راتكليف) وهو شخص شره للمال، يعتقد أن السكان الأصليين يملكون كنزا من ذهب، و معه ربان سفينته (جون سميث) الذى يلتقى بوكاهنتس بالصدفة و تنشأ قصة حب بينهما ، فتحاول بوكاهنتس – بصفتها ابنة رئيس القبيلة – إحلال السلام بين الانجليز وقبيلتها، بينما يوجد فى كل طرف من يؤجج للحرب، ثم يُتهم جون بقتل خطيب بوكوهانتس ويُحكم عليه بالموت ولكنها تشفع له، ثم يُصاب جون بطريق الخطأ من قائد الحملة (راتكليف) الذى يستغل تلك الحادثة ليتهم السكان الأصليين بأنهم من أصابوا جون وأنهم مجموعة همجيين، ويحاول الهجوم عليهم متوعدا بإبادتهم، ولكن فى اللحظة الأخيرة توقف بوكاهنتس وحبيبها إندلاع الحرب لنبقى أمام سؤال: من هو الهمجى؟، هل هو الرجل الذى يدافع عن أرضه؟، أم ذلك المحتل الطامع فى ثروة متخيلة من الذهب يخفيها السكان الأصليين؟، (والتى نكتشف كمتفرجين أنها عيدان الذرة أو الزراعة بشكل عام)، وفى المشهد الأخير يرحل جون تاركاً بوكاهانتس على أمل اللقاء مرة أخرى، وهكذا جعلت ديزنى أن الحب و السلام من الممكن أن يقوما بين محتل وصاحب أرض.
ويقال أن الفيلم بعد أن انتهى شاهدته لجنة من ديزنى وأوصت بمجموعة من التعديلات جعلت صانعى الفيلم يعودون للعمل عليه مرة أخرى من أجل إضافة بعض الشخصيات من الحيوانات، حيث رافق بوكاهنتس طوال الفيلم – دون حوار منطوق – طائر صغير وسنجاب، ووضعوا حيوانا على الجانب الآخر مشاكسا هو كلب شرير كصاحبه راتكليف، إلى جانب “شجرة روحية” تمثل روح الطبيعة ولكنها تتحدث وتنصح بوكاهنتس .
ولجأت ديزنى – كعادتها – لأفضل العناصر الفنية فى تنفيذ الفيلم، فالبطولة الصوتية “لميل جيبسون” والألحان للعبقرى “ألان مينكن” الذى يحمل أكبر عدد من جوائز الأوسكار فى الموسيقى و صاحب أجمل ألحان لأفلام ديزنى: علاء الدين، الجميلة و الوحش، و غيرها . و يعتبر فيلمه : الحورية الصغيرة ( 1989) بداية عصر جديد فى ديزنى يسمى بعصر “عودة الروح ” لنجاحه النقدى والجماهيرى، مما أعاد لديزنى رونقا كانت قد فقدته ، كما أن عروضه المسرحية الموسيقية تلاقى نجاحا كبيراً سواء كانت مأخوذة من أفلام ديزنى أو مصنوعة خصيصا للمسرح مثل العرض الشهير (ترنيمة عيد الميلاد A Christmas Carol)، ولذا فإن استوديوهات ديزنى تلجأ له فى الأفلام الضخمة بشكل شبه دائم.
وبناء على الخبرة السابقة التى اكتسبناها فى فيلم (الأسد الملك) لم تكن مسألة تسكين الأدوار صعبة، وإن كنا قد وضعنا قاعدة جديدة لنا فى الدوبلاج وهى أن نحاول أن نستفيد من المطربين المقبولين فى اختبارات الغناء، وندربهم على القيام بالأدوار التمثيلية، بناء على النجاح الذى حققه هشام نور فى دور سيمبا وأمانى شوقى فى نالا وبالطبع عصام سيف فى موفاسا، لكنى لاحظت خلال العمل مع بعض المطربين الذين لم يمارسوا التمثيل من قبل أنهم بمجرد أن يبدأوا فى تجسيد الشخصيات يصيبهم الإرتباك، ويفقدوا القدرة على إيصال الإحساس المطلوب، و يصل الأمر أحيانا لأداء بلا روح، وبعضهم لا يفرّق بين التنغيم المطلوب للسؤال أو الاستنكار أو الإجابة، فكنت أحاول أن أجعلهم يتخيلوا (لو) أنهم فى نفس موقف الشخصيات المؤداة فكيف يكون الإحساس، و لكن ( لو ) السحرية التى أوصى بها معلم التمثيل الأكبر ستانسلافسكى لم تسعفهم، فحاولت أن يصلوا الى الإحساس عن طريق المظاهر الجسدية (كالدموع فى حال الحزن الشديد و تأثيرها على الحنجرة و التنفس)، ولكنها كانت أيضا طريقة بعيدة عنهم .
وعليه كان لابد من وسيلة لقيادتهم بطريقة يفهمونها وتصل إليهم سريعا، ولم يكن هناك أسرع من استخدام الموسيقى معهم، فهذا هو تخصصهم، فكنت أصف لهم الأداء موسيقيا، فلو كانت الأمر يتعلق بسؤال فأغنى لهم كيف تكون نهاية السؤال (مجرد تنغيم بلا كلمات)، وما الفرق موسيقيا بين السؤال و الاستنكار، أو كيف تكون نهاية الجملة قاطعة أو مايسمى فى علم الإلقاء بالوقف التام .
وأحيانا ما كنت أستخدم المقامات الموسيقية فى شرح كيفية الوصول للإحساس، فمثلاً الجمل الحزينة يجب أن تُقال من مقام “الصبا”، وتلك فى مقام “النهاوند” لأنها عاطفية وهكذا .. و يبدو أن الأمر نجح الى حد كبير. ولكن كانت هناك مواقف من الصعب ترجمتها فى مقام موسيقى، حتى أننى اضطررت لأن أجعل مساعدتى تدخل مع إحدى الشخصيات إلى الاستوديو وتقوم بجذبها من ذراعها بقوة أثناء أحد المشاهد ليخرج الإحساس صحيحا.
وأثناء عملى على الفيلم ، كانت هناك معاناة من نوع آخر، فلقد كان ديدى – مهندس الصوت النصف أمريكى – مصاحباً لنا أثناء التسجيل، و كثيرا ما تدخل بملاحظات للأسف مضحكة بسبب لغته العربية الغريبة، فإذا توقفت للبحث عن لفظ بديل أو تعبير مشابه لتحقيق نتيجة أفضل فى التزامن، سرعان ما يقترح أشياء لا تمت بصلة للهجة المصرية، وإذا لم آخذ باقتراحه فإنه يكرره و يصر عليه، فنوقف التسجيل ونمضى نقنعه بأن ما يقوله خطأ، وبالتالى أصبح عنصرا معطلا.
ومع تكرار إضاعة الوقت ذهبت غاضبا إلى سمير حبيب طالبا منه أن (يسرب لنا ديدى) أثناء التسجيل، واعتبر سمير طلبى غريبا برغم أننى حكيت له ما يحدث، ولكنه كان يرى فى الأمر جانبه الضاحك فقط . و أمام إصرارى حاول سمير إشغاله فى مكتبه بعض الوقت، و لكننى سرعان ما ذهبت لأستدعي ديدى بنفسى عندما توقف الجهاز فجأة.
ظللنا فى هذه الحالة من الشد والجذب إلى أن اكتشفت أمراً آخر، فالسيد ديدى كان يجعلنا نسهر طوال الليل بجواره وهو يقوم بمونتاج ماتم تسجيله طوال اليوم تحت دعوى تدريبنا على المونتاج، و كانت قدرته على السهر مدمرة لنا جميعا فيكفيه – إن أحس بالإرهاق – أن يستلقى على الأرض لمدة عشر دقايق ليقوم ويكمل بقية الليل فى صحة ونشاط وكأنه نام لمدة عشر ساعات. وكان اكتشافى أنه لا يدربنا ولاشيئ، إنه يقوم بعمله فى القاهرة بدلا من القيام به عندما نرسل الفيلم الى ديزنى، لكى يستطيع (الزوغان) عدة أيام فى رحلة سياحية فى مصر!!، وقررنا ألا نسهر أكثر من حد معين كل ليلة و لتذهب رحلة ديدى الى الجحيم.
وذات صباح طلب منى سمير حبيب ان نرسل ماتم تسجيله إلى ديزنى تمهيداً لوصول (الإله) كما يسمونه هناك.