بقلم : محمد حبوشة
مثل طيف هادر جاء على غفلة وانقضى دون سابق إنذار، يأتي مسلسل “النحات” على غرار الدراما العبثية التي لم تكتمل أركانها على نحو صحيح من حيث الإثارة والتشويق، فقد فشل فشلا زريعا فى التعبير عن جوهر تجربة “يامن” في البحث عن حقيقة مقتل والده أو خبرته كإنسان لم يعد قادرا سوى على الجرى وراء كل ما هو سطحي، وكأنه يتبع مدرسة عبثية، ترى أن الإنسان ضائع، ولم يعد لسلوكه معنى في الحياة المعاصرة، ولم يعد لأفكاره مضمون عقلاني، وإنما هو فقط يجتر أفكاره لأنه فقد القدرة على رؤية الأشياء بحجمها الطبيعي نتيجة للرغبة في سيطرة بعض الهواجس على كل تفكيره، حيث انقلب الأمر فأصبح هذا “النحات” الإنسان في خدمة هواجسه، وتحول الناس بالنسبة له إلى تروس تدور في فلك تلك الهواجس الاجتماعية الكبيرة التي تتحول إلى ألغاز يصعب الفكاك منها.
وعلى الرغم من أن مسلسل “النحات” يقف في ضفة أخرى من دراما رمضان هذا العام، إذ يحضر التشويق والقصة الملفتة والأداء الواقعي للنجوم فيه، فالجميع أبطال فعلا، ويؤدون أدوارهم بشكل ملفت، وفي بعض الأحيان أنضج من “باسل خياط” نفسه بطل الحكاية، واللقطات التي يقوم بها المخرج مجدي السميري مهمة جداً على الصعيد الإخراجي، خاصة في حركة الممثلين وتوظيف الإضاءة بلغة المسرح، لكنه خالف كل التوقعات وصدم جمهوره بأحداثه المملة التي بدأت بعد الحلقات الثلاثة الأولى، فقد ظن الكثيرون أن يكون مسلسل “النحات” هو النجاح الثالث على التوالي للنجم “باسل خياط” بعد نجاحه في مسلسل “الكاتب” 2019، ومن قبل في مسلسل “الرحلة” 2018.
أخفق “النحات” في إظهار قدرات باسل خياط التمثيلية بسبب أحداثه المملة والرتيبة والغموض الذي يسيطر على ثلاث شخصيات يؤديها باسل “يامن – عصمت – رند” حيث ظل قابعا في الماضي رغم مرور 10 حلقات من 15 هى كل عدد حلقاته، دون أي مؤشرات تشير إلى أنه سيخرج منها، بعد أن أصيب المشاهد بالملل والكآبة من قصة العمل التي تدور في فلك أن “الصور هي ذاكرة الحیاة .. و توثیق للحظات مهمة”، وسيتم تغییر مصیر بطل المسلسل الذي یقرر إقامة دورة تدريبیة في النحت في إحدى الجامعات لصيته الذائع في هذا المجال، ما يضطره لترك والدته والانتقال للعيش في البيت المقفل منذ وفاة والده قبل أن يولد “يمان” وسط الحاح وتخوف من والدته لعدم فتح البیت مجددا فما الذي سيتغير عندما يفتح الباب الذي أغلق لسنوات طويلة.
قرار “يامن” بفتح البيت والعيش فيه مجددا غير بالتأكيد “مصيره ومسار حياته”، تحت تأثير صور من الماضي، و”ذاكرة حياة لا يعرفها”، فقد ظهر مسلوب الروح، ولست أدرى ما جدوى الاستعجال وسلق العمل بهذا الشكل، فلا يليق بحجم نجم رمضاني اعتاد الاقتحام والتفوق أن يقتل روح العمل ويقطع أنفاسه، أما كان من الحكمة الإرجاء قليلا لتستوى الدراما على مهل أكثر، ويعرض في غير وقت رمضان؟، ظني أنه لو أمكن الصبر بعض الشيء لكانت النتيجة أفضل بكثير من طرح ثمرة درامية غير ناضجة وسط منافسة شرسة أظهرت ضعف مسلسل “النحات” على هذه الشاكلة.
المسلسل الذي كتبته بثينة عوض، وأخرجه مجدي السميري، لم يبلغ حتى نصف حضوره، ورغم أن “باسل خياط ” جسد ثلاث شخصيات لا تبقى له مشاهد لافتة حتى دور الشبح رند، مر هزيلا، كظلال عابرة، إلى جانب الشخصية الرئيسية “يامن” تبدو لنا بطلات من نساء متبخرات عدا النجمة الجزائرية “أمل بشوشة” التي ظهرت في الحلقة 8 بمشهد استعراضي صامت فسره الجمهور بألف معنى!، فقد أطلت “بوشوشة” ليخطف حضورها المتابعين من أول لحظة، وعلى الرغم من أنَّ ظهورها المفاجئ كان في مشهد واحد ليس أكثر، إلا أن هذا المشهد وحسب وصف الكثير من رواد مواقع التواصل الاجتماعي كان بألف معنى وكلمة، إذ ظهرت الفنانة الجزائرية في مشهد صامت لعدة ثوان، تقف داخل منزل متهالك وهي ترتدي اللون الأسود، وسيطرت على ملامحها الحزن والذبول، وفي جرأة متعمدة لم تضع أي مكياج على وجهها، لتترجم مشاعرها من خلال لغة جسدها فقط، والتي تكمنت من خلالها أن تقدم في براعة واحترافية حالة حزنٍ عميقة وصدمة بالغة، مما أثار تعاطف الجمهور معها متسائلين عن سبب وصولها إلى هذه الحالة.
وتداول رواد مواقع التواصل الاجتماعي مشهد “أمل بوشوشة” على نطاق واسعٍ، بين من يعلن حماسه لمعرفة قصتها وبين من يشيد بأدائها المتقن وبأنها كعادتها لم تخيب آمالهم في أي ظهورٍ لها حتى ولو كان بسيطا، لكنها عادة ما تطلق كما من الطاقة الإيجابية التي تظللها هالة الموهبة التي تسكنها منذ إنطلاقتها الأولى في “ذاكرة الجسد، جلسات نسائية، زمن البرغوث، الإخوة، أبو عمر المصري، دولار” وغيرها من أعمال لا تسعفني بها الذاكرة حاليا، لتحيا في غمار الشخصية متقمصة إياها من كافة الجوانب، تماما كما قامت بتجسيد شخصية “نوال الملاحي” حيث ظلت ملامحها غامضة طوال الحلقات الخمس الأخيرة التي ظهرت فيها حتى كشفت عن شخصيتها واضحة المعالم مع خط النهاية، وربما في الجزء الثاني تبدو أكثر فاعلية في الأحداث التي أظنها ستشهد تطورا كبيرا يمكن أن يغير الصورة الذهنية السلبية التي كونها المشاهد عبر الجزء الأول.
واعتقد بأن المشاهد عموما مرر للمخرج المبالغة في تأطير الأحداث بـ “أحداث بوليسية” من خلال الأداء البطيء للشخصيات، الضوء الخافت جدا.. الموسيقى الهادئة بطريقة تحرض على النوم، في مقابل تراكم متعمد من التشويق وإثارة الفضول والايحاء بخطورة الحدث، ورسم ملامح قصة تبدو في ظاهرها غامضة مثيرة يتوق المشاهد مع تقدم الحلقات في التعرف على تفاصيلها، لكن الذي حدث بأن عملية تراكم التشويق تلك وعرض تفاصيل متوزعة على محاور متفرعة عن الحبكة الأساسية أخل كثيرا بالشرط الدرامي، وهى إن تبدو في ظاهرها تفاصيل مثيرة، لكنها لا تبدو أنها ترتبط بالحدث الرئيسي، بل تتعلق بشخصيات لها حضور ما في المسلسل نجحت إلى حد ما في جذب اهتمام المشاهد حتى النهاية، ولكنها لم ترو فضوله وتعطشه لأفعال تشفي ظمأه الدرامي.
النقطة الجوهرية في مسلسل “النحات” التي أظهرت عيوبه، أنه لا يمكن المراهنة على الاسم وحده لوضع المسلسل في الجيب، فالاسم يمكن أن يرجح كفة العمل، لكنّه لا يحسم النتيجة لصالحه، خاصة أن الأداء من جانب “باسل خياط” كان متشنجا في كثير من الأحيان، والفنّ حين تفترسه الغايات التجارية بالسلق تجرده حتما من الملامح، ولا تبقي منه إلا هيكلاعظميا واهيا، حتى الأسماء المشاركة في العمل كان بإمكانها أن تعطي زرعا ناضجا، لكنه جاء حصاد يابسا، فعلى سبيل المثال جاءت ليا بو شعيا، بطلة بالكاد تركت أثرا يمكن أن يذكر، وريم خوري بدت كأي ممثلة ثانوية ضئيلة المستوى، دياموند بو عبود، بخبرتها واحترافيتها، لم يمنحها المسلسل بحلقاته الـ 15 المبتورة، تميزا دراميا يذكر، وندى أبو فرحات، حين بدأت تخطو خطوة واثقة لتثبيت أقدامه، انتهى المسلسل!، ومع ذلك يحسب لها دور الأم المعذبة، بالأرق تحت عيونها، وجلساتها النفسية وأمزجتها السيئة التي عبرت عنها بصدق.
عدا ذلك ضاعت أدوار كثيرة في متاهة “النحات” الدرامية، فقد مر جوزف بو نصّار بسرعة مذهلة وكأن لا وجود له، حيث كان في سباق مع الوقت الفاصل ما بين البداية والنهاية، تماما مثل مرور كارول عبّود الغامض في التباس عجيب، حيث بدا مغلّفا بضبابية الأسود الزائد عن الحد، أما إيلي متري وقاسم منصور في الواقع كانا يستحقّان فرصة أكثر من ذلك، ودارينا الجندي قامت بنوع من التجسيد الراقي إلى حد معقول، وقد أخفق أيضا كل من “ألكو داوود، إيلي متري، فادي إبراهيم، يارا قاسم” في تقديم أدوار تتسم بالأداء الجيد.
الذي أفسد العمل – من وجهة نظري الشخصية – في مسلسل “النحات” عدة عوامل منها ميل الكاميرا إلى الظلمات كثيرا في ظل إضاءة ضعيفة للغاية، ما فرض نوعا من كآبة المزاج الذي انعكس على الجو العام للأحداث طوال الوقت، وأثقل المسلسل وأتعب ناسه ومعهم المشاهد الذي ظل طويلا يتفحص المشاهد القاتمة في صعوبة بالغة، وذلك على الرغم من وجود بعض اللقطات الإبداعية التي تخدم السياق الدرامي أحيانا، كما أن معالجة جريمة تهريب الألماس وقضية الباسبورات المزوّرة بطريقة ساذجة تخلو من أي فعل درامي رجيم لم يلفت نظر المشاهد إلى جدواها من الأساس في خدمة التراجيديا كي يتوقف أمامها، ربما تكمن زبدة العمل في “الجزء الثاني”، ومن ثم يمكن تعدل الرأي العام وتغير الانطباع السلبي عن المسلس، إنّما ما مرّ طوال 15 حلقة جاء مخيبا للآمال للأسف، ولا يفتح مجالا للجدل والإثارة حول عمل كتب شهادة فشله في جزئه الأول.
بالتأكيد يدرك باسل خياط المناسب له في عمله الدرامي، وله حساباته التي نحترمها، لكن تبقى الكلمة الفصل في ميزان النقد الموضوعي للمشاهد، الذي عبر عن أن “النحات” يعتبر ضربة موجعة على الرأس، دواؤها ليس بالطبطبة على الكتف والارتماء في الحضن فينتهي الأمر، ولكن لابد من لفت نظره إلى ضرورة التأني قبل خوض تجارب مسلوقة تنذر بتراجع نجوميته بعد التقدّم الذي حققه في مواسم رمضانية سابقة في الدراما السورية والمصرية واللبنانية المشتركة، وصحيح أن للممثل حقّ الخيار، لكن ذلك مرهون بشرط تحمل النتائج، الصراحة مؤلمة ياباسل: “النحّات” كما عُرض على هذه الشاكلة، يعد من الأسوأ في رمضان 2020، وعليك الانتباه ياعزيزي في المرات القادمة.