حكايتى مع ديزنى (13) .. العريس المنتظر
بقلم المخرج المسرحي الكبير : عصام السيد
فجأة تحول ستوديو (إكو ساوند) إلى خلية نحل، عمال من كل مهنة و تخصص يعملون فى الاستوديو، حوائط تزال وأخرى تُبنى، وأثاث جديد بالكامل يُوضع، ولمسات فنية معاصرة تُضاف، وألوان مبهجة تغمر المكان، وتغيير شامل فى الأرضيات و دورات المياه، حتى قاعات التسجيل أيضا طالها التغيير، فقاعة التسجيل الكبرى تم تقسيمها إلى قاعتين، كل منهما استوديو منفصل تماماً ومعزول صوتياً، بحيث يمكن العمل فى كليهما فى نفس الوقت، أما قاعة التسجيل الصغرى التى كانت فى الجانب الآخر من المبنى فقد تحولت الى مكتب للأستاذ عبد الرحمن شوقى، و بجوارها كان هناك مخزناً للالات تحول إلى غرفة مونتاج على أعلى مستوى.
كل هذه التغييرات كانت استعداداً لاستقبال أعمال ديزنى والتى توقع سمير حبيب الفوز بها و استعد لها فى صمت، ولكن التغيير الأكبر و الأهم كان فى غرفة تحكّم الاستوديو الرئيسى – و الذى أصبح يحمل رقم 2 بعد تقسيمه الى استديوهين – حيث تم تغيير ديكورات الغرفة بالكامل وأضيفت لها مواد عزل أحدث، وأجهزة تكييف أقوى، وأخليت تماماً من جميع أجهزة التسجيل، كل ذلك من أجل عيون العريس المنتظر.
ثم جاء العريس ليسكن الغرفة: إنه جهاز تسجيل ليس ككل أجهزة التسجيل فى ذلك الوقت ، انه ( إس إس إل S .S . L ) و الذى يفتخر سمير حبيب بأنه نفس الجهاز الذى تستخدمه شركة ديزنى. و الحقيقة أنه خليط بين أجهزة تسجيل الاستوديوهات و أجهزة الكومبيوتر. و مرتبط بمجموعة شاشات إحداها يتم عرض الفيلم عليها و أخرى لبيان عمليات التحكم فى الجهاز.
ومضت مجموعة من الفنيين المصريين على رأسهم عبقرى الكومبيوتر المهندس عز الدين غنيم (الذى أرسله سمير حبيب من قبل الى أمريكا ليدرس الجهاز)، ومهندس الصوت طارق علوش (نجم تصميم شريط الصوت للمسلسلات المصرية حالياً) يسهرون أياماً لتركيب الجهاز فى حجرة التحكم، بينما سمير حبيب على أعصابه حتى استقر العريس فى حجرته، وبمجرد استقراره فرض الجهاز علينا أوامره من منع للتدخين فى وجوده أو تناول المشروبات فى حضرته، و أطعنا جميعا فالعريس تكلف أكثر من نصف مليون جنيه – بأسعار ذلك الزمن الذى كان فيه الدولار لا يتعدى 3 جنيهات و أربعين قرشا !!
والحقيقة أنه كان يستحق هذا الثمن و أكثر ، فالجهاز بحق يعتبر معجزة فى تلك الأيام و فتحاً فى استديوهات التسجيل وانتقالها الى عصر الديجتال، ففيه – على سبيل المثال – تراكات صوت لا نهائية وإمكانات لا حدود لها، سواء فى التسجيل أو المونتاج (تقطيع وتنظيف وإعادة ترتيب المشاهد) أو المكساج (مزج الأصوات المختلفة ووضعها فى بيئتها)، ويتيح لإكو ساوند أن تقوم بجميع العمليات الفنية والتقنية لتصل النسخة العربية للفيلم إلى ديزنى جاهزة تماما ولا يبقى سوى تركيبها على الفيلم الأصلى .
أصبحتُ عن طريق ذلك الجهاز لا أحمل هماً لعيوب النطق مثل تضخيم بعض الحروف أو أصوات التنفس التى تظهر فى التسجيل أو طرق الهواء للميكروفون، فعن طريق الجهاز يتم تحويل الصوت الى مجموعة ذبذبات أو موجات مرسومة على الشاشة لتحذف منها أى شائبة – ولو كانت جزءاً من الثانية – فتحذف الغرغرة التى تصاحب الخاء، وتحجم الهواء الذى طرق الميكروفون، أو أن تمنع ارتفاع الصوت إلى حد الضوضاء فى حال الصراخ، بل بإمكانك أن تعدل الأصوات النشاز أثناء الغناء وتجعلها تغنى بشكل سليم (وهو ما أصبح منتشرا فى كل الاستوديوهات الآن و استفاد منه كثيرون للأسف، لكنه وقتها كان معجزة بكل المقاييس).
ليس هذا فقط ، فالجهاز يتيح لك مؤثرات متعددة لا حصر لها، فبعد تسجيل الصوت وبضغطة زر إفتراضى يمكنك أن تجعل الصوت المسجل وكأنه ينطلق داخل حجرة ضيقة أو صالة كبيرة أو فى استاد أو حتى تحت الماء، بل يمكنك أن تجعل الصوت المفرد وكأنه أصوات مجموعات ضخمة.
أما فى مسألة التزامن (السينك) فبإمكانك تحريك الكلام، فلو بدأ الممثل حديثه قبل الصورة و انتهى قبلها فيمكنك تحريك الجملة إلى الموضع الصحيح تزامنا مع حركة الفم و اذا كانت الكلمات أطول أو أقصر بثوانى قليلة فمن الممكن مط أو تقصير الكلام دون أى تغيير فى طبيعة الصوت .
كانت إمكانيات الجهاز فى ذلك الوقت مبهرة (الآن يمكنك إضافة برامج خاصة لأى جهاز كومبيوتر لتفعل هذا وربما ماهو أكثر)، وكانت المشكلة الوحيدة أن التحكم فى الجهاز لم يكن عن طريق (ماوس أو كيبورد) كبقية الكومبيوترات التى نعرفها وقتها وإنما كان عن طريق لوحة وقلم خاص !!
لا أنكر إنبهارى بالوافد الجديد، و لأننى أعشق التكنولوجيا ولا أحب أن أتخلف عن العصر، وتنفيذا لمبدأى بأن أعلم شيئ عن كل شيئ قررت أن أتدرب مع مهندسى الصوت بالأستوديو على الجهاز الجديد، وأن أحاول معرفة كافة إمكاناته لأستفيد بها فى عملى – وهو ما وفر لى فيما بعد كثيراً من الوقت والجهد وأعاننى على الإجادة أكثر – و عندما بدأت فى التدرب صار إنبهارى بالجهاز لا يقل عن اندهاشى بسبب الشخص الذى أتى ليدرب مهندسى الصوت على استعمال الجهاز، إنه مهندس صوت فى أوائل الثلاثين، أسمر البشرة و رفيع القوام بشكل ملحوظ يحمل الجنسية الأمريكية، و على رأسه غابة من الشعر المعقود فى ضفائر طويلة ودقيقة بعضها يتدلى على وجهه عندما يتحرك، وللأسف هو يتحرك فى سرعة ويتكلم فى سرعة ولا يجلس لدقائق فى مكان واحد إلا إن كان أمام الجهاز، عندها ينسى نفسه بالساعات. لكنته الأمريكية لا تتيح لك فهم ما يقوله وعندما تستفسر منه عن معنى مافاتك، يحاول أن يشرح لك باللغة العربية مستخدما لهجة المفترض أنها مصرية، فيستعصى عليك الفهم أكثر، فهو يتكلم العربية وكأنها لغة أخرى وله تعبيرات لا توجد فى اللهجة المصرية أساسا وعندما تحاول أن تُصحح له تعبيراته المشوشة يثور وينفعل متوهما أن مايقوله صحيح وأننا نسخر منه، ويقول لك فى فخر: أنا إسكندرانى وفاهم كل حاجة.
كان (ديدى) وهذا اسمه الذى لم أعرف له إسماً غيره، فى البداية عازفا للموسيقى، عمل مع سمير حبيب فترة، ثم استهوته هندسة الصوت فعمل بها ثم هاجر إلى الولايات المتحدة وهناك تدرج الى أن أصبح أحد المسئولين عن مونتاج الصوت فى والت ديزنى، أما كيف عثر عليه سمير حبيب وأتى به من ديزنى ليدرب مهندسى الصوت فهذا مالا أعلم تفاصيله حتى الآن !
المهم أننا جميعا تحملنا ديدى – وخاصة عندما يتعالى علينا ويتعامل معنا كجهلة بالتكنولوجيا – من أجل عيون الجهاز، فقد كان يتعامل معه بسرعة خارقة وبفهم عميق، واستغل السيد ديدى هذه المسألة فى فرض قواعد وشروط على استعمال الجهاز، فلابد من تسجيل الصوت الواحد على تراكين فى نفس الوقت، وعند حدوث أى مشكلة فى تراك نستعين بالثانى، وأن نقوم بنقل نسخة كاملة مما تم تسجيله يوميا إلى ذاكرة أخرى غير ذاكرة الجهاز وفرض علينا أن نقوم بعملية (حفظ) كل فترة قصيرة بسبب انقطاع التيار الكهربائى المتكرر والتى تتسبب فى فقدان المادة من على الجهاز مابين آخر حفظ وبين لحظة قطع التيار.
و برغم إعجابى بمهارة ديدى الشديدة إلا أننى سرعان ما اصطدمت به.