كتب : محمد حبوشة
لا شك أن أسوأ أنواع الكوميديا هى الكوميديا التي لا تضحك بقدر ما تبعث على التقزز عن طريق إطلاق (الإفيهات) السخيفة أو (القلش) الخارج عن حدود اللياقة والآداب العامة، وحتى إذا افترضنا أن لعمل كوميدي ما رسالة فكرية هامة، لكن أحداثه وشخصياته لا تضحك، فإنه سيفشل حتما، فقد نجح (موليير وبومارشيه وماريفو) وخلدت أعمالهم ليس لأنها تحتوي رسائل اجتماعية ناقدة، ولكن لأنها تضحك، فالعمل الكوميدي الناجح، سواء كان رواية أم مسرحية أم فيلما أم مسلسلا تلفزيونيا، هو الذي يحترم قيم معظم المشاهدين، ويتجنب جعل (السماجة) دافعا للإضحاك، لأنها إذا أضحكت فإنما هى تضحك شريحة ضيقة من المشاهدين، وليس الغالبية العظمى من الناس.
تقديري أن غالبية صناع الكوميديا في رمضان هذا العام خانهم التقدير السليم، فصوروا ما يستهين بالحياة الإنسانية وآلام البشر من أجل تمرير مقولة دعائية معينة في خيالهم وحدهم، ثم تلا ذلك اعتذار لبق لم ينقذ صاحبه من حملة قدح وذم وتشهير، بما يتجاوز كل الحدود المألوفة – اعتذار بيومي فؤاد عن مسلسل (رجالة البيت) نموذجا)، والملاحظ أنه يسود عالم الإنتاج التلفزيوني هذه الأيام هوس شديد بنمط المسلسل الكوميدي على حساب المسلسل الاجتماعي والتاريخي وحتى الديني، لكن ـ للأسف الشديد ـ يبدو أن صناع عدد من هذه المسلسلات يستهينون بالاطلاع على النماذج العالمية الملهمة لهذا النمط الذي يملك القدرة على انتشال الناس من آلمهم وجرهم إلى واحة رحبة من الطمأنينة على جناح الضحك.
ومن أمثلة تلك الأعمال التي تجنح نحو (السماجة) مسلسل (2 في الصندوق)، فعلي الرغم من أنه يحتوى على عدد لابأس به من الممثلين الكوميدين الأكفاء مثل (صلاح عبد الله ، بيومي فؤاد، حجاج عبد العظيم، عبد الله مشرف، انتصار، محمود البزاوي) ، وضيوف شرف على شاكلة (محمد ممدوح ومصطفى قمر) وغيرهم، إلا إنه جاء على طريقة (2 في صندوق زبالة الكوميديا السخيفة)، حيث يفتقد لحدوته طريفة تلامس الواقع بشكل حقيقي، ويبقى المؤلم في الأمر لجوء المؤلف إلى السخرية من مهنة “الزبال”، فقد حاول بشتى الطرق أن يتصنع مواقف كوميدية من فرط المواقف التراجيديا التي يتعرض لها “زيكا وشوقا”، معتمدا على صندق الإفيهات من نوعية الكوميديا الرخيصة، حتى ولو أنه عمد بسخرية إلى إنشاء (رابطة الزبالين) الخاصة بأهالي منطقة الزرايب، أو اختار أسماء من نوعية (بولا، الدعكي، شوقا، زيكا، عبده ممادو، عم رزة، دربالة، كلبلو)، وجعل مهنة (النبطشي) شغلانة الشرف والأمانة، لكنه لم ينجح في سعيه نحو صناعة مواقف تجلب ذلك الضحك النابع من القلب.
ياسادة: هنالك كثير من المواقف المؤلمة والسلبية التي تستوقفنا في مسارات الحياة اليومية، وغالبا ما نضحك عليها من فرط سخريتها، وعادة ما يقوم المبدع أو المؤلف الكوميدي بإعادة كتابة ما يصادفه من المواقف المؤثرة بأسلوب ساخر، ومن جانبه يتفاعل المتلقي بالضحك والبكاء في الوقت نفسه، وقديما قالت العرب: “شر البرية ما يضحك”، وفي الأدب عموما، والفنون بصفة خاصة يظهر مفهوم (الكوميديا الساخرة) كنوع من أنواع الدراما، وفي العادة تكون غايتها إضحاك الناس بأسلوب ساخر، تظهر صاحبها بصورة هزلية، تفضح سلوكياته الناقصة أمام المشاهد، وتجعل المشاهد لا يقلدها ويشعر بالحرج في حالة تكرارها.
لكن (الكوميديا الساخرة) في (2 في الصندوق) نسفت تلك المواقف والسلوكيات والأخلاقيات والأفعال والأقوال في الحياة الاجتماعية، وضربتها في مقتل، حين سخرت من مهنة “الزبال” طوال الوقت، وقدمتها بأسلوب يتصف بالتهكم والهزل الذي يعتمد على المواقف الساخرة المستوحاة من الموضوعات الاجتماعية و السياسية، فجاءت الكوميديا السوداء في هذا المسلسل كردة فعل للأوضاع السوداوية التي تسود العالم كالإرهاب والمخدرات والحروب والعنف، فقد سعى كاتب القصة إلى التعبير عن الواقع المضحك المبكي للزبالين بأسلوب ساخر يكشف أهم القضايا التي يعاني منها المجتمع، لكنه أخفق في التعبير عن ذلك الواقع الأليم بقدر يلخط الكوميدي بالتراجيدي في ثوب يتم قبوله من جانب مشاهد يجلس في منزله معظم الوقت مراقبا ومتذوقا وناقدا جراء توفر الوقت الكافي لذلك.
ينبغي أن تتمثل المحاكاة الساخرة في الأعمال الفنية من خلال الكاريكاتير والمحاكاة التهكمية، كما أن هناك الكوميديا السوداء أو القاتمة، وهى نوع درامي مركب، يجد فيه الجمهور المتعة والتنفيس عن الموضوعات المطروحة، ورغم أن الفصل بين الكوميديا والتراجيديا قد انتهى، عندما تخلصت الدراما المعاصرة منه، وتحولت إلى دراما اجتماعية تعتمد على المفارقات التي تثير الضحك والبكاء في آن واحد، ومن هنا يبقى على الدراما الهزلية (الكوميديا) أن تسعي إلى نقد السلوكيات الاجتماعية السلبية، بغية تطهير المجتمع منها وإعادة التوازن إليه، لا إلى التهكم والسخرية من مهنة بعينها، فبواسطة الدراما، وإثارة المشاعر، يحدث التطهر لدى المتفرج حسب المفهوم الأرسطي.
الكوميديا (يا ناس) يجب أن تكون أكثر قربا من الحقيقة وواقع المجتمع أكثر من أي نوع آخر درامي، يقول الفيلسوف الفرنسي هنري لويس برجسون في كتابه (الضحك): (نجدها – يعني الكوميديا – تسمو كلما مالت إلى الامتزاج بالحياة، وهناك مشاهد كثيرة من الحياة الواقعية التي تقترب من الملهاة الراقية، بحيث يمكن للمؤلف أن يستعيرها دون أن يغير فيها كلمة واحدة)، ولقد عانت الكوميديا في فترات زمنية من أنواع من الفنون الهزلية (الفارس أو الفودفيل)، تماما كما تعاني مسلسلاتنا حاليا بحيث لا تعتمد على الموضوع أو القيمة المعرفية للموضوع ولا النقد الموضوعي للسلوكيات الاجتماعية، بقدر ما تهتم بالنكتة (البايخة) على مظهر الشخوص أو لهجاتهم أو غيرها من الأساليب المعتمدة على التهريج الزائد عن الحد في كثير من المسلسلات.
لماذا لانلجأ إلى مسلسلات (كوميديا الموقف) على غرار تجربة (بـ 100 وش) على سبيل المثال في خارطة دراما رمضان هذا العام، خاصة أنها من نوعية (كوميديا الموقف) الجادة الأكثر انتقادا للقضايا السلبية في المجتمع، بدلا من كوميديا الإسفاف الأكثر شيوعا بين الجماهير، والتي تعاني بالضرورة من السطحية، وتعتمد على الضحك بأسلوب سخيف، وهى لا تحمل أي رسالة سوى نوع من التسلية والمتعة البصرية الزائلة بمجرد انتهاء الحلقة.
كما أن هناك الكوميديا الهجائية، التي تهاجم الأفكار والعادات والأخلاقيات والمؤسسات الاجتماعية بشكل يتسم بخفة الدم (الظرف) والسخرية أو التهكم، كما يوجد نوع من الهزل القائم على الاستهزاء بالحياة وابتكار المواقف العبثية وبناء الشخصيات المبالغ فيها، إضافة إلى الكوميديا السوداء أو القاتمة، التي يجد الجمهور فيها صعوبة لتحديد وجهة نظر معينة، فهل ينصرف عن الموضوع المطروح أو أنه يضحك عليه بشكل صاخب، ويدخل فن (الكاريكاتير الساخر) ضمن المحاكاة الساخرة والتهكمية على شخوص أو موضوعات بعينها.
وظني في النهاية أن (الفنون الساخرة) هى وسيلة للتعبير عن الواقع بأسلوب كوميدي هزلي، حيث تركز على مواقف معينة ضمن معطيات الحياة اليومية، وتحاول تضخيم المثالب ورصدها للمتفرج، وتعتمد الفنون الهزلية على الأساليب غير المباشرة – على عكس المباشرة والسطحية السائدة في مسلسلاتنا الحالية – في محاولة لإثارة التساؤل والضحك في آن واحد، بسبب انتقاص المواقف السلبية في القضايا المطروحة، وليس على شاكلة إفيهات (زيكا) ثقيلة الظل في (2 في الصندوق) على جناح قوله بسخرية: (أول بسطة في سلم المجد) أو (امسح بك السلم الموسيقي)، أو (زي الفار لما يتسرسب على المطبخ)، أو كتابة عبارتي: (عضة أسد ولانظرة حسد) و(بتوع زبالة بس رجالة) على سيارة نصف نقل، والحقيقة المرة أنها كلها للأسف عبارات لا تصنع مواقف كوميدية بقدر ما تعبر عن حالة الاستهانة بالبشر والمهن وتلك وظيفة تؤدي إلى الهدم وليس البناء الذي هو جوهر الفن الحقيقي!!!