عبدالغني السيد.. مشوار الألم والدموع
بقلم : سامي فريد
لا تحاول.. فلن تجد مخلوقاً عانى مثل ما عانى عبدالغني السيد من الألم والحزن في طفولته وحتى مماته يرحمه الله..
البداية كانت مع زوجة الأب لا ترحم كانت تغليه بالماء المغلي أثناء نومه.. ولم يكن الصبي يصرخ وإنما كان يكتم ألمه حتى لا يتسبب في إيلام أبيه بعد طلاقه من أمه حتى اكتشف أبوه “الاسترجي” في مجلات موبيليا علي حسن المسألة بالصدفة، عندما عاد من الخارج يبحث عن ولده عبدالغني فوجده راقداً تحت الغطاء الذي ما إن رفعه عنه حتى صرخ من هول ما رأى، كانت ملابس الولد ملتصقة بجسده الذي هرأت المياه المغلية، سأله عمن فعل به هذا.. ولم يتكلم الصبي في البداية، لكنه اكتفى بالإشارة بعد إلحاح أبيه إلى امرأة أبيه فكان أن طردها أبوه ليعيده فورا إلى أمه..
هكذا كانت بداية عبدالغني السيد صاحب أجمل صوت وأكثرها شجنا حتى أطلقوا عليه لقب “البلبل الباكي”..
ألحقه أبوه معه في مهنة الاسترجي بمحل الموبيليا فبرع في المهنة حتى كان يوم عمله في الزمالك في فيلا الباشا وزير الحربية لتكتشفه ابنة الوزير فتهتم به لجمال صوته وأدبه ووسامته ورجولته وهدوئه فتطلب منه أن يعاود زيارتها لتقدمه إلى ضيوفها من الفنانين والأدباء والملحنين..
وكان القدر هو الذي جمع الاسترجي بابنة الباشا في قصة غرام عجيبة ليتزوجها حتى يراها صاحب الجلالة فيسأل عن ذلك الكائن الغريب الذي يرافق ابنة وزير الحربية.. وكانت فاتنة الجمال، فيقرر جلالته بمرسوم ملكي تطليقهما حتى لا يقفز أبناء الدرجة الدنيا إلى أسيادهم في المراكز العليا..
في محلات على حسن للموبيليا يسمعه الملحن زكي مراد والد ليلى مراد ومنير مراد فيدهشه غنائه ويعلمه أصول الغناء ثم يقدمه للإذاعة في أول افتتاحها الرسمي عام 1934، ويترك عبدالغني السيد مهنته ليبدأ مشواره مع الغناء حتى التقى بالموسيقار رياض السنباطي ليوقع معه عقد إنشاء شركة بيضافون.
وفي الثلاثينيات تحدث أكبر مفاجأة غير متوقعة عندما حقق أغنيته “نسيتي حبي بعد اللي كان / صحيح يا دنيا مالكيش أمان” فباعت اسطوانتها مليون نسخة داخل مصر وخارجها، وهو ما يصفه عبدالوهاب عندما قال: عبدالغني السيد هو الرجل الوحيد الذي هزمني مرتين.. في المرة الأولى عندما كان منافساً قويا لي، وفي الثانية عند وفاته فخسرت أحب صديق لي.. لكن عبدالوهاب بدهائه فعل كل ما يستطيع أن يفعله، عندما كان يتدخل ليقنع عبدالغني بعدم الاشتراك في هذا الفيلم أو عدم غناء تلك الأغنية ثم يزيد على ذلك فيصطحبه معه في كل رحلاته إلى الشام ليكون رفيقه هناك وعينيه وتابعه ويبتعد بذلك عن القاهرة ونشاطه فيها.
غنى عبدالغني السيد في مشواره الفني رغم كل ما كان يعانيه حوالي 880 أغنية هي كل رصيده في الإذاعة وللأسف فالإذاعة لا تذيع منها – إن ذاعت – سوى أربع أغنيات بالكاد هى: ع الحلوة والمرة وله ياوله.. والبيض القماري.. وآه م العيون وبايعني ولا شاريني..
كان عبدالوهاب بحسب رواية ابنه محمد، يعمل على تعجيز عبدالغني السيد حتى لا ينافسه بعد ما فاز بالاسطوانة البلاتينية عن أغنية “صحيح يا دنيا مالكيش أمان”..
ومن المفارقات ذلك الصوت الصاعد عبدالحليم نصحهم في الإذاعة بأن تكون من نصيبه.. وهكذا أصبحت فاتحة الشهرة بالنسبة له..
وفي السينما لم يقدم عبدالغني السيد سوى 16 فيلما بسبب تدخل عبدالوهاب المستمر، حيث قام في 4 منها فقط بدور البطولة أما في الأفلام الستة عشر فكان فيها مجرد ضيف أو ظهور ثانوي.. وكان من هذه الأفلام (شارع محمد علي، شيء من لا شيء، ليالي الأنس، سفير جهنم، نور من السماء، البيت الكبير، بنت العمدة)..
عن والده يقول ابنه محمد أنه لم يكمل تعليمه، ومع ذلك فقد كان يجيد القراءة والكتابة وكان صاحب خط جميل.. بل وكان رساما أيضا كما كان يجيد تقليد أصوات كل المطربين.
المدهش هو أن منير مراد اشتهر بتقليد كل المطربين لم يستطع تقليد عبدالغني السيد بسبب نبرة صوته التي لا يمكن تقليدها..
لكن مشوار عبدالغني السيد مع الألم لم يتوقف.. فقد ضاعت معظم أغانيه في أرشيفه الإذاعة.. وقد غنت المطربة (لطيفة) إحدى اغنياته وهى “أنا ما تنشيش”، كما غنت له نجاه أغنيته “في الحلوة والمرة”..
أما الخبر الصدمة عن وفاة عبدالغني السيد فهو ما يقوله ابنه محمد عندما كلمت تحية كاريوكا أباه الساعة الثالثة صباحا لتطلب منه الحضور حالا إليها ليطلقها من فايز حلاوة.. ويضيف محمد فيقول: لبس أبي ملابسه مرة أخرى وكان يتأهب للنوم ليذهب للصلح بين تحية كاريوكا وفايز حلاوة فلا يجد منهما إلا الصراخ والسباب حتى سقط والدي بينهما مصابا بجلطة في الشريان التاجي، وكان الطبيب قد نصحه بعدم الانفعال بعد جلطة سابقة أصابة في قدمه، وفي المستشفى وفي العناية المركزة زاره عبدالحليم حافظ ليمسك عبدالغني يد ويطلب منه أن يغني له أغنيته “في يوم.. في شهر.. في سنة” ولم يستطع عبدالحليم الغناء وسط دموعه لكن والدي أصر – يقول محمد – فغنى عبدالحليم حتى وصل إلى مقطع “وداع يا دنيا الهنا.. وداع يا حب يا أحلام” فسالت دموع والدي على خديه، وقال لعبدالحليم: تعرف أنا عايز إيه دلوقتي: عايز ألعب دور طاولة مع بليغ حمدي وعلي إسماعيل.. ثم ابتسم وفارق الحياة.
هكذا كان مشوار عبدالغني السيد مع الألم، يوم أن أمر جلاله الملك بتطليقه من حبيبته ثم ضياع أغانيه في أرشيف الإذاعة.. ثم معاكسات عبدالوهاب له لتعجيزه بدعوى الخوف عليه وتدخله في كل أعماله.
ويبقى أن نقول أن عبدالغني السيد قد غنى لعبدالناصر 32 أغنية لم تذع منها ولا أغنية واحدة، فقد أمر الرئيس السادات بمسحها كلها لولا أن السيده هدى عبدالناصر كانت تحتفظ بشرائطها فأهدت لأسرته هذه الشرائط..
وتحكي تحية كاريوكا حكاية مختلفة عن وفاة عبدالغني السيد فتقول إنها تلقت تليفونا من ابنه تفيد بوفاته فأسرعت لتتصل بكل من تعرفهم لتجهيز عبدالغني السيد للدفن.. فمن تصدق؟!
ولكن.. لم ينسى عبدالصبور عبدالغني السيد قصة زيجته الثالثة من السيدة شجون توفيق راسخ التي أوقفت نفسها على تربية أبنائه لتحصل على لقب الأم المثالية على مستوى الجمهورية عام 1982..