كتب : أحمد السماحي
منذ سنوات طويلة اختفت من حياتنا الفنية والإنسانية الرومانسية وتركتنا نبحث عنها، ثم ننشغل عنها، ونعود إلى ما تركته لنا، وتركته فينا، وبدأت تطاردنا من كل حدب وصوب أعمال العنف والبلطجة والإرهاب، وبدأنا نسمع في المسلسلات أصوات القنابل والرصاص أكتر مما نسمع كلمات “الحب والغزل”، ولم نعد نرى على الشاشة لقطات الدموع وفراق المحبين والتضحيات، ولحظات القلق والتوتر، والبيوت الجميلة المليئة بالورود.
لكن كل هذا ظهر لنا فجأة مع بداية شهر رمضان من خلال المسلسل الكويتي الجميل البسيط “شغف”، والذي ينتمي لأعمال السهل الممتنع الذي أعاد لنا الرومانسية في ثوب عصري يتناسب مع مفهوم هذا العصر المادي، ولم تكن الرومانسية فقط هى التى أعادها لنا هذا المسلسل، بل أعاد لنا الجمال، سواء في البيوت أوالأماكن التى تدور فيها الأحداث.
المسلسل تأليف “علاء حمزه”، إخراج “محمد القفاص”، بطولة نخبة من كبار نجوم الكويت تتقدمهم الفنانة المبدعة صاحبة الرصيد الضخم من الأعمال الراقية “هدى حسين”، ويشاركها البطولة النجم المتميز “حسين المنصور” الذي نشأ وتربى فى استديوهات التصوير، نظرا لمولده في “عائلة المنصور” الفنية الشهيرة فى الكويت، ومعهم فى هذا العمل الاجتماعي الرومانسي النفسي كثير من النجوم منهم “عبدالله بوشهري، زهرة عرفات، عبدالله الطراروة، ريم أرحمه، سلوى الجراش، ناصر كرماني، سليمان الياسين، مي عبدالله، هدى حمدان، نورا محمد، عبدالله عباس، سارة القبندي، والنجم الكبير “جاسم النبهان”.
تتناول الأحداث في إطار درامي رومانسي نفسي عبر مثلث جنون الحب، حيث تقع فنانة تشكيلية “دانة” في حب شاب يدعى “فيصل” يصغرها في السن، بعدما أصابت في أعصاب يدها وفقدت قدرتها على الرسم، حيث تستعين به لكي يرسم أفكارها، في الوقت الذي يتعلق بقلبها شخص آخر وهو “نواف” رجل الأعمال وجارها منذ الصغر، الذى هام بحبها منذ كان في الثامنة من عمره، وتتوالي الأحداث التى تدور فى إطار الصراع العاطفي والنفسي.
لا يقتصر المسلسل على قصة حب “نواف ودانة”، ولكنه مليئ بقصص الغيرة والطمع، وقصص الحب المعقدة المتشابكة معظمها حب من طرف واحد مثل حب الناقدة الفنية “إمتثال” لـ “راشد” الذي يصغرها في السن والذي يناسب ابنتها أكثر منها، وحب “زهرة ومرام” لـ” فيصل”، وحب “دانة ” لـ “فيصل”، وحب “غالب” لـ” مرام”، واستطاع مؤلف المسلسل الكاتب “علاء حمزه” التسلل إلى قلب المرأة وعبر عنه، وعن تناقضاته من خلال مجموعة من القصص العاطفية المركبة التى تلتمع وتضيئ كما تضيئ النجوم فى ليلة حالكة السواد، أو قطع الماس البراقة على رداء مخملي غامق.
وشهد المسلسل – حتى الآن ونحن في الحلقة الثامنة عشر – مبارة رائعة فى التمثيل، ودعوني أتوقف معكم عند بعض المشاهد التى هزتنا جميعا وتفوق فيها نجوم المسلسل، وقدموا أفضل إمكانياتهم التمثيلية، من أهم هذه المشاهد دخول “نواف” المستشفي فى الحلقة الرابعة عشر، ويرى خطيبته وحبيبة عمره “دانة” تضع يداها على يد “فيصل” الذي أصيب فى مشاجرة مع “غالب”، وهو غير مصدق ما يرى، حتى أنه يحاول أن ينادي “دانة”، ولكنه يكتشف أنها فى دنيا أخرى، وتساوره شكوك حبها لـ”فيصل”، لكنه يطرد هذا الخاطر على الفور من ذهنه، ويذهب إلى الناحية الأخرى من السرير حتى يواجهها وتأخذ بالها من حضوره، لكن يكتشف أنها فى عالم آخر مع “فيصل”، هنا قدم “حسين المنصور” تعبير بليغ ومكثف بوجهه يدل على الحيرة والشك والحب فى وقت واحد.
وفى نفس الحلقة يقدم “المنصور” أدائا بارعا هو و”هدى حسين” وهى تعترف له بحبها لـ “فيصل” وتقول: “أكدب عليك وعلى نفسي وعلى الناس، آسفة للمرة الثانية، كنت أتمنى أموت ولا نرجع للحظة دى تاني، آسفة يا نواف مقدر أتزوجك، مالك مكان في قلبي”!
فى هذا المشهد الرائع الذي لا ينسى للمبدعة “هدى حسين” استطاعت بوجهها وحركات جسدها التعبير عن كل العذاب الذي يشتعل فى قلب وضمير إمرأة تعلم جيدا عشق الرجل الذي تواجهه، وتأثير كلماتها عليه، وأعطانا “المنصور” الإحساس الحقيقي بالجرح والمرارة والعذاب، وهو يشعر أن الإنسانة التى تعني عنده الحب تهرب بعيدا عنه وتتركه لوحدته، ورسم المخرج “محمد القفاص” أجواء المشهد بشكل رائع، وأعطى الفرصة لوجه “دانة” للتعبير عن كل أحاسيسها، وقام بالتقطيع على وجه “نواف” بشكل جيد يدل على حرفيته الشديدة.
وكانت ذروة الحلقة في نهايتها عندما ذهب “نواف” وهو مثل الطائر الجريح يخفي فجيعته وألمه إلى مرسم “دانة”، ويثور بكل حب السنين وعذاب المحب على اللوحات ويصرخ في الحضور قائلا : “أيش تشوفوا فى ها للوحات، ألوان، شخابيط، براويز، وين أنا؟ وين حياتي؟ وين 25 سنة اللي ضاعت من عمري؟ ويني؟ 25 سنة من عمري ضاعوا!”
وفى الحلقة السادسة عشر يقدم مشهدا بديعيا وهو راقد في السرير يصافح ألبوم الصور الذي يجمعه مع “دانة”، ووجهه مليئ بالهزيمة وتدخل ابنته “دانة” عليه فيخبئ ألبوم الصور وقبل أن تنطق ابنته التى تشعر بهزيمة والداها العاطفية فيقول لها : الحب ما تعرفونه! ليش أحب “دانة” رغم كل اللي تسوي فيا؟!
دانة : ما أحب أزعجك بهاالموضوع
نواف : أدري
دانة : امتى يجيي اليوم اللي تنساها فيه؟
نواف : قلت لك ما تعرفون؟! أنا عمري ما حبيت إلا “دانة”، وعمري ما قلت “أحبك” إلا لـ “دانة”
دانة : حتى حق أمي!
نواف : حتى حق أمك، وهذا ما زعلها مني، أنا ما قلت هالكلمة إلا لـ “دانة” وبس، وكأني جيت الدنيا عشان أتنفس “دانة”.
حتى الآن جاء أداء المبدع “حسين المنصور” طبيعيا فى تمثيله، وبسيطا فى أدائه لدور “نواف” هذا العاشق الملتاع، بما يمتلكه من وجه وسيما رائقا، وصوتا رخيما هادئا، وقواما عريضا ممشوقا، وخطوات رياضية واثقة، بالإضافة إلى تكوينه النفسي الهادئ جدا جدا، وقيم الوفاء والتضحية وتحمل الآلام، وكل هذا دفع به إلى أن يحس بكل تقلبات الشخصية المليئة بالرجولة والتسامح الداخلي الذي وصل إلى الاستسلام الذي أثار مشاعر الشفقة ودفع الجمهور إلى التعاطف الشديد مع “نواف”، لأنه يرى فى سلوك بطله على الشاشة نبلا غريبا، لا نراه في الواقع.
وقدمت أيقونة ” الكويت” الفنانة المبدعة “هدى حسين” أدائا خاصا، يمكن أن نطلق عليه التقمص الداخلي أو الانفعالي للشخصية، فعلى المستوى الخارجي أو الشكلي، لا تهتم بأن تكسو ملامحها الخارجية كساء خاصا مميزا، أو أن تستعير لازمة حركية أو شكلا خاصا لشخصياتها، بل يبدو أنها حريصة أن يظل وجهها وسائر جسمها فى حالة طبيعية تماما، لكي لا يعيقها شيئ “خارجي” عن الشعور بخلجات الشخصية داخليا، وبالمعاني التى يجب عليها أن تجسدها فى اللقطة من كلمات أو من خلال الانفعال الداخلي، الذي سينعكس تلقائيا على الوجه أو الصوت أو حركة اليدين.
لذا كانت في “شغف” تكتفي باستخدام “إكسسورات” الشخصية الضرورية التى تعكس بيئتها وثقافتها ومدى اهتمامها بشكلها بحكم كونها نجمة كبيرة في عالم الفن التشكيلي، وهذه التفاصيل الخارجية تعد ضرورية للوصول إلى التعبير الأمثل عن الشخصية، وأعتمدت على إحساسها الداخلي وتعبيراتها المدروسة وأنقذت شخصية ” دانة” التى تلعبها بكل تناقضاتها وحبها وغيرتها من نمطية كانت تهددها.
وكان الفنان القدير “جاسم النبهان” مثل النسمة الرقيقة فى نهار صيف حار بطلته البسيطة ومشاهده القليلة، وصال وجال النجم الشاب “عبدالله بوشهري” وقدم الدور بفهم، وإن كانت خرجت منه مشاهد لم يشعر بها داخليا، لهذا مثلها من الخارج، لكنه قدم أكثر من مشهد بشكل متميز مثل المشهد الذي يخبر شقيقته بوفاة والدته، وأيضا عندما شاهد سرير أمه فارغا.
وكانت “ريم أرحمه”، أو “شوق” مفاجأة المسلسل بتحولاتها الدرامية، من فتاة مغلوبة على أمرها تغصب على ترك حبيبها وخطيبها، وتتزوج من رجل أكبر منها، إلى أنثى “هائجة” متمردة، انتهازية، تستغل الرجل الكبير الذي تزوجها وتجعله يكتب لها ما تريد من ميراثه.
كذلك قدم الممثل الشاب “عبدالله الطراروة” دوره بفهم وتمكن، وقدره على التسلل إلى أدق تفاصيل شخصية “راشد”، وكان مشهد مواجهته لشقيقته “دانة” متميزا.
وقدمت الفنانة المتميزة “زهرة عرفات” دور الناقدة الفنية “امتثال” التى تستغل مهنتها فى تحقيق أكبر قدر ممكن من الفلوس بشكل مبدع وراقي، واستطاعت أن تتآخ مع الشخصية بكل تحولاتها من حب وصداقة لدانة إلى غيرة وانتقام!
وأعجبنى جدا الفنان “ناصر كرماني” وقدم دور الرجل الجشع ماديا بشكل رائع وجعلنا نكرهه، ونكره ظهوره فى المشاهد الذي يظهر فيه، وهذا نجاح كبير لهذا الفنان الكبير المتميز.
كما قدم باقي الأبطال من الشباب أداءا جيدا جدا، خاصة الفنانة “هدى حمدان” التى تألقت بشكل كبير في دور “مرام”.
وعبرت الموسيقى التصويرية للأخوين “وليد وسائد الهشيم” عن أجواء الحب والقلق والتوتر بشكل جيد جدا، وقدم مدير التصوير “عبدالله العوالمه” صورة رائعة، متميزة.
أما المخرج البحريني “محمد القفاص” فتوج كل هذا بإخراج بسيط سلس، من دون استعراض في العضلات بحركة كاميرا وزوايا تصوير تؤكد حرفيته الشديدة وتمكنه، وابتعد فى هذا المسلسل عن الإخراج العصري الذي نفذه في “أمنيات بعيده”، يجوز لأن الموضوع هنا يعتمد على المشاعر والأحاسيس، وتمكن من إيصال الإحساس الداخلي الذي لم يكتب على الورق ولا يحكى في المشاهد، وهذا نجاح كبير له كمخرج.
فى النهاية مسلسل ” شغف” سيظل فى الذاكرة لسنوات وسنوات قادمة، وللحديث بقية ..