بقلم : محمد حبوشة
يخطئ من يظن أن الشخصية الكوميدية (المضحكة) تختلف كثير عن الشخصيات الدرامية الأخرى من حيث أبعادها الفنية وصفاتها إلا بشكل نسبي، إذ أن لها بعدا عضويا وجسمانيا معينا وقد يكون فيه تشويه يثير الضحك، لكنه لا ينبغي أن تأتي الشخصية الكوميدية على غرار فن الـ “جروتسك” الذي لا أحبه، لأنه ببساطة يعنى بالقبح بنوعيه، التقليدي والمركب؛ وهو ما يدفع للسؤال: هل يمكن أن يكون الفن قبيحاً، وأن يمتلك في الوقت ذاته قيمة جمالية؟.
الإجابة كما طرحها صاحب كتاب “النقد الفني .. دراسة جمالية وفلسفية”، الذي ترجمه لـ “جيروم ستولينتز”، الدكتور فؤاد زكريا، والذي خلص فيها إلى عدم وجود تصادم بين الفن والقبح، واستند في إجابته تلك على أن لوحات “الجروتسك” استخدمت فى المسرح كخلفيات، كدليل عملي على عدم تصادم الفن مع الجمال، فالجمال المادي ببساطة يكمن في عين الناظر، ومن خصائص الإبداع القدرة على تحويل ما هو بشع إلى جميل، ويفترض بالعمل الفني أن يعالج المحتوى القبيح كما يعالج الجميل بفنية خالصة للتخفيف من وطأته تارة، وبيان مدى شناعته تارة أخرى.
ويبدو لي أن الكوميديا التي تعرض على شاشة رمضان هذه الأيام – للأسف – تنتمي إلى فن “الجروتسك” في أبشع صوره الهدامة حيث تحول الضحك بموجبه إلى نوع من “القلش” المقيت، وتلك هى البشاعة في حد ذاتها، وكأن هذا “القلش” أصبح أسلوبا كوميديا معتمدا من جانب كتاب الكوميديا هذه الأيام، الذين لا أرى أبدا أنهم يتمتعون بأي نوع من خفة الظل، في حال لجوء معظمهم إلى “القلش” كوسيلة مضمونة لمحاولة انتزاع الضحك من قلب المشاهد رغما عنه.
ومن نوعية الكوميديا التي تعتمد أسلوب “القلش” القائم على فن “الجروتسك” مسلسل “عمرو دياب” الذي شاهدت حلقاته الـ 16 على مضض، بحكم إضراري للمتابعة، وهنا لابد لي أن أرثي حالي وحال كل من شاهد هذا العمل المشوه مضطرا على سبيل الترويح عن نفسه في نهار أو ليل رمضان، في حجر صحي في ظل أزمة كورونا، فقد كنت أظنه مسلسل اجتماعيا ينتمي إلى طبقة اجتماعية معينة، ولا يختلف فيه ممثل الأدوار المضحكة (الكوميدية) عن ممثل الأدوار الأخرى سواء في المسرح أم في السينما أم في التلفزيون، سوى ما تتطلبه الشخصية الكوميدية من متغيرات في التعبير الجسماني والصوتي.
لكني للأسف الشديد وجدت المبالغة والاصطناع والتشويهات تلعب دورها طوال الوقت في أداء أبطاله – الذين لايستحقون ذكر أسمائهم – بقصد أثارة الضحك، فيفترض أنه مثلما يمتلك الممثل التراجيدي أو الدرامي مرونة جسمانية وصوتية كافيه لأداء دور يفضي إلى البكاء، أن يمتلك الممثل الكوميدي مثل هذه المرونة أيضاً لانتزاع الضحك، بل قد يتطلب من الممثل الكوميدي أن يكون أكثر مرونة لأن المتغيرات التي عليه أن يمر بها خلال مواقف متغيرة كثيرة وسريعة.
والممثل الكوميدي عليه أيضا أن يقدم جهدا استثنائيا في أدائه للأدوار الكوميدية، حسبما يرى فرويد “أن الممثل الذي يقدم لنا عرضاً مسرحياً هزلياً مقارنة مع أنفسنا أنه يقدم جهداً كبيراً من خلال وظائف الجسم، وأن هذا الجهد يجعلنا متَمتعين ومسرورين وهذا هو التفوق الذي يشعر به الممثل الكوميدي”، لكن في مسلسل “عمرو دياب” قد لا تلمس أي جهد يذكر سوى بعض الحركات الهيسترية على طريقة “الأرجواز” مع تغيرات صوتية تدعو للتقزز، حيث يمتلك أصحابها ملامح يراها مضحكة، لكنها من وجهة نظري الشخصية تعد تشوهاً في الشكل واستعداداً للنزق، وهي صفات تخدم نوعا من التمثيل يقوم على التحقير.
أيها السادة المنتجون الأجلاء، هناك ألف لون ولون من الضحك، وهناك ألف سبب وسبب، وقد حاول الباحثون حصر أسباب الضحك، فهناك الضحك الذي يسبب دهشةً عند حدوث مفاجأة ما، والضحك عند مشاهدة الفشل البسيط الذي يُمنى به الآخرون، وقد نضحك أيضاً لحدوث بعض المفاجآت غير المتوقعة أو الصدف العارضة في بعض المواقف، وكذلك نضحك لدى مشاهدة مفارقة جديدة أو سماع نكتة مثلاً، ومن الأحوال الأخرى التي تجعلنا نضحك – بخلاف التعبير عن البهجة والسرور- الاستجابة لضحك شخص آخر، أو أثناء الاشتراك في لعبة جماعية، وقد يكون الضحك أيضا استجابة للمس شخص آخر بعض مناطق الجسم على سبيل الدعابة، وهذا ما يسمى الدغدغة .
وتلك الدغدغة هى ثاني أساليب التي استند الضحك عليها في “عمرو دياب”، الذي تبارى فيه الممثلون في محاولة لأن ينتقل الضحك بالعدوى، حيث يستخدم الضحك نفسه لصناعة المزيد منه، فكلنا نلاحظ أن مخرجي الكوميديا التلفزيونية يضيفون إلى المشاهد المصورة صوت ضحك مستعار لحث المتلقي على الضحك، وقد التفت الجاحظ إلى هذه الظاهرة، وجلاها في قوله: “ضحك من كان وحده لا يكون على شطر مشاركة الأصحاب”.
ظني أن استخدام أسلوبي “القلش والدغدغة” في هذا المسلسل الغارق في التفاهة والسطحية لايؤي الضحك فيه إلا بقدر من التعبير عن السخط والضيق والتفاعل المفتعل على المستوى الاجتماعي والسياسي، فهو سيف مسلَّط على رقاب الخارجين على الآداب العامة، وعلى الذين يفرضون مهابتهم قسراً على الآخرين، وحتى في حال فرض تلك المهابة ينبغي أن يكون للمثل مظهر جسمي مقبول ولديه مؤهلات السحر والجاذبية، لا أن يكون المظهر الخارجي للممثلين في “عمرو دياب” على تلك الشاكلة التي تتمتع بخصائص شاذة غير مألوفة أو قبحا في الجسم أو الوجه، وهذه الخصائص تقلل في ذاتها من قيمة مهارتهم في الأداء القيمة والقدر إذ إن أساليبهم التي تستغل المظهر الخارجي تمضي في اتجاه انتقاص القيمة وفي اتجاه التحقير كما ذكرنا سابقا.
أما الوسائل التي يستخدمها الممثل الكوميدي مثل “على ربيع ومصطفي خاطر” – مضطر أن أذكر أسمائه في النهاية للأسف – في أدائهما لإثارة الضحك اعتمادا على أن الضحك يأتي على جناح المبالغة، وهى من التقنيات الهامة التي يستخدمها معظم الممثلين الكوميديين: لكنهما فشلا طريقة التحدث عن أشياء صغيرة كما لو كانت كبيرة، لأنه ببساطة لابد أن تكون المبالغة ممنهجة، لكنهما لجأ إلى استخدام النكتة لإضحاك الجمهور، أو أن يسمعا المشاهد مقطعين من الكلام يعاكس أحدهما الآخر أو يشاهد المشاهد حركتين تعاكس إحداهما الأخرى، أو موقفين يعاكس أحدهما الآخر، أو شخصين يتعاكسان في شكلهما أو في سلوكهما ظنا منهما أن ذلك يجدلب الضحك.
وفي النهاية لابد لي أن أوضح لافتا أنظار المنتجين إلى أن أمثال هؤلاء من المضحكين الجدد لا يصدرون لنا في النهاية سوى نوع من الطاقة السلبية، حيث ينحدرون يوماً بعد آخر بالواقع الإنساني للجحيم، قتلاً للنفوس البريئة وتدميراً، إلى جانب ما بات يعانيه الإنسان العربي حالياً من واقعية بشعة في خضم حروب واعتداءات، أنهكت قلوب مدن عربية عريقة، كانت يوماً ما تقطر حضارة وجمالاً، والآن موت وهجرات جماعية وغرق، تجعل من مصطلح مثل “الجروتسك” الذي ارتبط طويلاً بالقدرة الفنية على معالجة ونقل كل ما هو مقزز وقبيح ومخيف ومنفر أو شاذ عبر عالم الفنون.
يبدو أنه ما عاد كافيا لتوصيف هذه الواقعية الضاغطة التي أفرزت أبشع ما في النفس البشرية، حتى بدا الإبداع عاجزاً عن استيعاب كميات الشر المتفاقمة التي غدت تنزها تقرحات سرطان الإرهاب والحروب، حتى يتسنى في حال استيعابها والتعبير عنها تعريتها أكثر، والحد قليلاً من وطأتها القاتلة على جناح الضحك على طريقة “هرمان ملفيل” الذي يعني أن “الضحك هو الرد الأكثر حكمة وسهولة على كل ما يثير الغرابة”.. وما أكثر أوجه الغرابة في حياتنا المعاصرة.