بقلم : محمد حبوشة
ليس فقط صانع وجدان أجيال كثيرة بأعماله الدرامية فائقة الجودة، إنما هو أحد صناع المتعة التي قلما أن يجتمع لكاتب درامي أن يصنع وعيا ومتعة في نفس الوقت، لذا فمسلسلاته التليفزيونية تعد نقاط فارقة في الدراما العربية، والشخصيات التي نحت ملامحها وصفاتها وأخلاقها على ورق تحولت بسحر قلمه عبر الشاشة الفضية إلى أيقونات راسخة في عقول المشاهد المصري والعربي، ليس لصدقه الفني فحسب، بل لأنه أمين على القيم الدينية والأخلاقية، فهو يستشعر إيقاع المجتمع ويستطيع تصويره دون وعظ مباشر، وإنما عبر أداء درامي أقل ما يقال فيه أنه استشعر نبضات هذه الأمة من بداية تاريخها إلى وقتنا الحاضر.
إنه “محمد جلال عبد القوي” صاحب الأعمال التليفزيونية التي تعد أكبر شاهد على الأمانة العلمية والتاريخية والاجتماعية في العصر الحديث، فقد حفز الناس من خلال تلك المسلسلات على النقاش الساخن والمؤثر والانحياز الكامل لكل القيم الأخلاقية في المجتمع، فهو الذي حارب تبدلها حينما أراد البعض ممن انحرفوا أن يبدلوها، وانحاز أيضا إلى العادات والتقاليد وإلى الأسرة المستقرة، حتى حينما كان يبدو له أو يلوح في الأفق تنافس هذا الاستقرار العائلي مع الحب، كان ينحاز على الفور للحب حتى تستقر العائلة، لأن الحب من وجهة نظره هو السبيل إلى الأسرة المرتبطة، ولقد كان له السبق بأفكاره فهو الذي دق إنذارا كبير من سفر المصريين إلى الخارج دون أي ضوابط، مشيرا إلى أن هذا السفر ربما يتوقعون أن يحمل إليهم السعادة، لكنه كان يحمل في طياته كثير من المشكلات الطارئة على البيئة الاجتماعية المصرية الطاردة لأفكار التطرف والانتهازية.
حين تقترب منه أو تحدثه حتى تليفونيا في محاولة للدردشة حول شأن من الشئون أو تأخذ رأيه في قضية ما سرعان ما تلمس اعتزازًا كبيرا بالنفس، وأنفة يصحابها نوع من التعالي، فضلا عن كبرياء لاحدود له، ربما يفسره البعض بأنه غرور أو نوع من الاختيال بالنفس والتعجرف في تعامله مع الناس، لكنه في الحقيقة عندما تقترب منه تجده كبرياء الكاتب المعجون بالموهبة، ويبدو ذلك طبيعيا جدا فاعتداده بنفسه والحفاظ على كرامته جزء لا يتجزأ من شخصية صاحب مبادئ لا يتنازل عنها مهما تغير الزمن ومهما تبدلت الظروف من حوله، وحتى مهما حاول البعض عرقلة مشاريعه الدرامية التي تنبض حبا وحيوية لتراب هذا الوطن الذي يعشقه منذ نعومة أظفاره وحتى اليوم ويرى أن مصر وطن كبير وأم حنون لكل الأقطار العربية شاء من شاء وأبى من أبى.
أسلوب السرد القصصي
ولهذا ربما أكتب هذا البروفايل الذي يقدم صورة عن قرب عن الكاتب والمفكر “محمد جلال عبد القوي”باعتباره أديبا للدراما المصرية ومبرري في ذلك يرجع لعدة أسباب: ومنها أنه يكتب بأسلوب روائي حتى أن بعض الكتاب المصريين الكبار قالوا لو أن “جلال عبد القوى” كتب مسلسلاته في صورة روايات لحاز جائزة نوبل بسهولة شديدة، جراء إتقانه أسلوب السرد القصصي ورسم ملامح الشخصيات ببراعة شديدة، حرصه الدائم على إيجاد رابط درامي يربط بينها بطرقة فنية فريدة، فضلا عن بناء الأحداث بطريقة مشوقة للغاية، بالإضافة إلى أنه كان يكتب الأشعار التي تغنى في مسلسلاته، وفوق كل ذلك جملته الحوارية تحمل فلسفة خاصة وتتمتاز بالجزالة والتعبير ببساطة غير مخلة عن أدق التفاصيل التي تصنع التشويق.
ولد “محمد جلال عبد القوي” بحسب روايته: في قرية “شباس الملح” بجوار مدينة “دسوق” بمحافظة كفر الشيخ، وتعلم في كتاب القرية أصول اللغة العربية وحفظ نصف القرآن الكريم في سن ست سنوات، والتحق بمدرسة القرية الابتدائية، ثم التحق بمدرسة “التعاون الابتدائية” بدسوق التي كانت من أشهر المدراس في تلك المدينة، وزامل أحمد زويل، عالم نوبل العظيم على نفس “الديسك”، وبدأ يلفت النظر إلى تفوقه في اللغة العربية أكثر ربما بسبب التحاقه بالكتاب وقراءة الكتب القديمة والملاحم الشعبية مثل “ألف ليلة وليلة، الزير سالم، سيف بن ذي يزل” في سن مبكرة، حيث كان يحكيها والده لأبنائه بطريقة محببة، حتى أن مدرس اللغة العربية الأستاذ “حسن المدني” لاحظ أن كراسة التعبير الخاصة به عبارة عن موضوع واحد، فقال لي أنك تملك من أدوات اللغة من الإطناب والبيان ما يذكرني بطه حسين.
كانت أول مرة يسمع فيها الصبي محمد جلال عبد القوي، عن عميد الأدب العربي، وبعدها بدأ ممارسة كتابة القصة القصيرة والشعر العامي والشعر الفصيح الذي كان يلقيه في الإذاعة المدرسية، وتطورت عملية الكتابة عنده بشكل متدفق حتى أنه كتب “الرجل والحصان” ثالث أعماله التليفزيونية في سن 17 سنة، وكانت عبارة عن رواية نصف طويلة، ولقد ورث فن الحكاية عن جدته التي كانت تجمع السيدات من البيوت المجاورة وتجعله يقرأ عليهم حتى الألفاظ النابية في “ألف ليلة وليلة”، من هنا تكونت لديه ملكة الكتابة، وقد شجعه والده على ممارسة الفعل الكتابي حتى كتب الرجل والحصان ومن ثم قام بتلخيصها وعملها سيناريو.
عاشق لأسلوب العقاد
ويعتبر كاتبنا الكبير والده “جلال عبد القوي” أغنى أغنياء الدنيا رغم أنه تاجر بسيط، وذلك لأنه أصر أن يعلم أولاده السبعة تعليما جامعيا رغم قلة موارده، لكنه بحكم تمرده صغيره لم يحقق رغبة والده هذا في دخول إحدى كليات القمة، فقد أصر بعد المرحلة الثانوية أن يلتحق “محمد” بمعهد الفنون المسرحية، وتخرج في قسم التمثيل والإخراج، وتم تعينه معيدا بالمعهد، لكنه كان عاشق ومتأثرا جدا بأسلوب العقاد في التعامل مع الأدب والحياة في عناده وإصراره واعتزازه بنفسه، وبمجرد أن التحق بالقوات المسلحة قام بإنشاء المسرح العسكري، وأجرى 28 مقابلة تليفزيونية آنذاك.
ونظرا لأن التمرد – كما قلنا – كان صفة أصيلة في شخصية “محمد جلال عبد القوي” فقد ترك معهد الفنون المسرحية بعد ثلاث سنوات تقريبا من تعينه معيدا به، لأنه اكتشف قدراته التمثيلية وقام بأداء دور “همام” في أول مسلسلاته “الغربة”، والذي عرضه أولا على نور الدمرداش عام 1977 ، وكان مكتوبا عليه “إخراج أحمد خضر” زميل دربه ورحلة كفاحه، وقال لي “الدمرداش” تعالي بعد أسبوع، وبالفعل ذهبت إليه في الموعد وأثنى على المسلسل، وقال لي هذا عمل يستحق أن يعرض في 30 حلقة وسأخرجه، وأعطي خضر سهرة، فقلت له آسف، صحيح أن “خضر” إنسان بسيط للغاية لكني مصر عليه، لكن رد فعلي استفزه وماتت الحكاية.
في عام 1979 بعد أن عزفت عن الكتابة فترة، وكان نور الدمرداش رئيس صوت القاهرة، وكنت أسير وكلي يأس في طرقات ماسبيرو، حتى قابلني أحد العاملين بالتليفزيون، وقال لي أنت اسمك “محمد جلال عبد القوي” فقلت له بنوع البرود: نعم، فقال لي إلحق إنهم في الرقابة يبحثون عنك منذ 3 شهور، إذهب حالا إلى مدام “سميحة جميل”، فذهبت لمكتبها بخطى متثاقلة، متهيب وخجل جدا ومنكمش وأنا أطرق الباب وفتحت فقالت لي نعم، فقلت لها أنا “عبد القوي” فانتفضت من مكانها وقالت لي “أنت اللي كاتب “الغربة”؟، وجمعت كل فريق عملها وقالت لهم هذا هو الشخص المطلوب كاتب “الغربة”، من هنا كان شعاع النورالأول لي قد انطلق لتوه في الكتابة التليفزيونية، حيث قام بإخراج العمل “حمادة عبد الوهاب” نائب رئي التليفزيون في هذا الوقت.
الصدق حصان طراودة
كان الصدق هو حصان طراودة الذي أوصل هذا العمل إلى الجماهير، ولعل عبارة جملة “هراس جاي” كانت تمثل الإمام الحسين والمهدي المنتظر كدلالة رمزية للمنقذ القادم لانتشال الجماهير ورد الظلم عنها، وبالمناسبة كان “أحمد زكي” مرشحا للدور قبل “سعيد عبد الغني”، بعد أن انتهى من مسلسل “الأيام”، وفي أثناء البروفات حيث كنت أقوم بدور “همام” وهو يلعب دور
“هراس” اندمجت وقمت بعمل مشهد “ماستر سين” فأثار ذلك حفيظته واعتذر عن استكمال دوره في المسلسل، وبالمناسبة أشاد محمود مرسي بأداء دور الصعيدي، قائلا بالحرف الواحد: الولد ده عمل دور الصعيدي أحسن من اللي عملته في “شيئ من الخوف”.
وبعد مسلسله البديع “الغربة” الذي يحب أن يطلق عليه دائما في أحاديثه الخاصة “هراس جاي” أثرى “محمد جلال عبد القوي الشاشة المصرية والعربية بمسلسلات تعد علامات بارزة وفارقة
في الدراما على مستوى الشكل والمضمون، ومنها عام 1979 “المعدية” بطولة عبدالبديع العربي، وحسن عابدين، وإخراج حمادة عبدالوهاب الذي قدم معه في العام التالي “الغربة” لسعيد عبدالغني، وفردوس عبدالحميد، وفي عام 1982 قدم مسلسلين مهمين؛ هما “أديب” عن قصة حقيقية للدكتور طه حسين بطولة نور الشريف، والثاني “الرجل والحصان” لمحمود مرسي، وهدى سلطان وهو تجربة فريده في الصدق بين العسكري وحصانه الذي رعاه بعد أن استغنت الحكومة عن خدماته، وفيه إسقاط واضح
على ذلك الظلم من جانب المجتمتع لأولئك المطحونين في الحياة.
وقدم “عبد القوي” قدم تجربة دينية تحسب له في سجل الدراما التاريخية والدينية من خلال مسلسل “موسى بن نصير” لعبدالله غيث في عام 1983، وفي عام 1986 قدم واحداً من أفضل المسلسلات الاجتماعية “أولاد أدم” لعبدالمنعم إبراهيم، وفي عام 1986 قدم مسلسلي “حارة الشرفا” لعبدالله غيث وبرلنتي
عبدالحميد، و”غوايش” لصفاء أبو السعود، وفي عام 1991 قدم “علي عليوة” لكمال الشناوي وكريمة مختار، ثم قدم رائعته الراسخة في وجدان المصرين وستظل راسخة إلى الأبد مسلسل “المال والبنون” بجزأيه، وقد حظي هذا المسلسل بجماهيرية كبيرة لعزفه على أوتار الحب والصراع بين أبناء العائلات في الحارة الشعبية، وقد أثبت من خلال الحلقات المشغولة بضمير حي أن الحب هو المفتاح الأول والآخير لتماسك العائلة وقت أن كان
المجتمع المصري يعلى من شأن الحب على عكس ما يحدث الآن من أسباب كثيرة تدعو للفرقة والتشرزم.
نصف ربيع الآخر
في عام 1996 قدم “محمد جلال عبد القوي” واحداً من أفضل المسلسلات الرومانسية التي لم يغالبها مسلسل من هذا النوع حتى الآن “نصف ربيع الآخر” ليحيى الفخراني وإلهام شاهين، وإخراج يحيى العلمي، ثم “حياة الجوهري” ليسرا ومصطفي فهمي،
و”البر الغربي” لسناء جميل وفاروق الفيشاوي، و”سوق العصر” لمحمود ياسين وأحمد عبدالعزيز، و”الليل وآخره” ليحيى الفخراني ونرمين الفقي، و”حكاوي طرح البحر” لمحمود ياسين ونرمين الفقي، ثم قدم مع يحيى الفخراني مسلسلي “المرسي والبحار، وشرف فتح الباب”، ومع نور الشريف “حضرة المتهم أبي”، ومع إلهام شاهين ومصطفى فهمي “قصة الأمس”، ولعل من أبرز ما قدمه خلال رحتله التي وصلت إلى 35 عملا دراميا
هو مسلسل “هالة والدراويش”، والذي حظى بعدة أغاني للفنانة المبدعة “صابرين” تعد علامات مهمة في الدراما المصرية الحديثة.
في كل تلك الأعمال تجد أن “محمد جلال عبد القوي” يضع قيم الشرف والنبل والمثل العليا في كفة، والمال والجاه والسلطان في الكفة الأخرى، ثم يضع عاطفة الحب في المنتصف، وقضايا الوطن وأحداثه الكبرى في الخلفية ثم يدير الصراع، ولأنه كاتبا روائيا وشاعرا كبيرا ضل طريقه إلى عالم الأدب، فقد تفجرت ينابيع
إبداعه في نهر فن شعبي جديد هو فن “الدراما التليفزيونية”، وأصبح من رواده الكبار، ببساطة لأنه يكتب الحوار بروح شعرية شفيفة عذبة، تفيض بروح صافية صوفية، بصيرة بمكامن الإحساس في الوجدان المصري، تعرف كيف ومتى تبَكي وتُبكي.
كما أنه بارع في استدعاء لحظات تاريخية مضيئة في تاريخنا يلقي من خلالها الضوء على الواقع عن طريق عقد موازنة بين الماضي والحاضر، فالفتح الإسلامي لمصر وسيف صلاح الدين في “سوق
العصر” يأتي في مقابلة انكسارات أبناء “أسرة المغازية” أمام سطوة “حلمي عسكر” والشيخ “محمد الجوهري” الذي وقف لنابليون وأمره بإخراج الخيول من صحن الأزهر، هو النموذج الذي يدفع حفيدته “حياة” لمقاومة خيول الزمان الجديد من رجال الأعمال الفاسدين الذين شوهوا الحياة، وحاولوا اختطافَ أرضِ الوطن.
فكرة العدالة تلازمه
وهنالك ملمح مهم سوف تلحظه بمجرد مشاهدتك لمعظم أعمال “محمد جلال عبدد القوي وهو أنه شغوف بفكرة “العدالة”، يتطلع إلى القانون وأهله في رؤية رومانسية حالمة ترى طيور الخير المهاجرة لا تعود إلا إذا أنصفنا المظلوم، رؤية تتطلع إلى قانون عادل له عقل بصير وقلب مضيء، فالعدالة فكرة تشغله دوما وتلح عليه بقوة، ومن لوازم تلك الفكرة ظهور الشعور الديني والروح الإيمانية بشكل لافت بالنظر في كل أعماله الدرامية التي تتحدث بلغة الشارع كما كان يحرص على ذلك؟
ورغم شدة ارتباط تلك الأنماط البشرية التي يحرص على وجودها في أعماله والتي تعنى بخصوصية الحياة المصرية وقضاياها إلا أن روح هذا المبدع وفنه الأصيل جعلا منها أنماطاً إنسانية عامة يمكن رؤيتها في كل زمان ومكان، كما أن منزلة عاطفة “الحب” لدى “جلال عبدالقوي” تظل حاضرة باعتباره صاحب نزعة رومانسية مرهفة الحس، شديدة الرقة، لكنها ليست مجرد رومانسية عاطفية فارغة، وإنما هي رومانسية اجتماعية ممتزجة برؤية واقعية بصيرة تعالج قضايا الواقع وتعلي من قيم الوطن.
يقول عن نفسه دائمًا: “أنا أفضل من كتب الدراما في الوطن العربي، ومع ذلك يرى أنه ضل الطريق إلى الكتابة التلفزيونية، فهو ذلك الشاب الذي جاء من محافظة كفر الشيخ إلى القاهرة، يحلم بكتابة الشعر والرواية الأدبية والقصة القصيرة، إلا أن الظروف قادته في النهاية ليكون أحد أشهر مؤلفي المسلسلات المصرية، لكنه توارى عن الأنظار لأكثر من 12 سنة لأن المؤلف – على حد قوله – لم يعد هو النجم الأول في العمل بعدما تغيرت قواعد اللعبة، حين أصبح النجم ابن أمس يضع رجلاً على رجل، ويتحكم في النص، يقبل هذا ويرفض ذاك، فأصبح المشهد مرتبكًا لا تعرف من فوق ولا تعرف من تحت، فضلا عن تدخل المنتج في عمل المخرج، وفي زمن أصبح يفرض الممثل شروطه على المخرج والمؤلف، لايمكن أن أخد نفسي مشاركا في تلك اللعبة المهينة، كما أنني لمست استسهالاً وعدم الحرص على وجود نصوص جيدة، فغضبت، وقررت الانسحاب والانزواء بعيدًا حفاظًا على تاريخي.
قواعد الرواية التليفزيونية
فعلا صدق “عبد القوي في قوله فالساحة الدرامية الآن كان لابد أن يغيب عنها محمد جلال عبدالقوى ومحفوظ عبدالرحمن وبشير الديك ويسرى الجندى وكرم النجار وآخرون، وبالنسبة للمخرجين كان لابد أن تغيب إنعام محمد على ومحمد فاضل ورباب حسين وغيرهم، نظرا لأن المناخ الحالى ليس مناخنا، لأننا هذا الجيل تربي بشكل مختلف ككتاب وكمخرجين، وأرسى قواعد الرواية التليفزيونية بدءا من محفوظ عبدالرحمن وأسامة أنور عكاشة كل فى ميدانه، فأسامة أرسى قواعد الدراما ذات الجذور الأدبية، ويسرى الجندى أرسى القواعد ذات الجذور الشعبية، ومحفوظ عبدالرحمن أرسى القواعد ذات الجذور التاريخية، أما الآن فتدار الدراما التليفزيونية بشكل جديد ينافى ما تعود عليه هؤلاء العمالقة.
هم يقولون الآن، إنهم يكتبون المسلسلات بطريقة جديدة – هكذا قال محمد جلال عبد القوي مؤخرا – ومضيفا: يدعون أنهم مجددون، لكن في الحقيقة هم لا يقدرون حاليًا على كتابة الرواية التلفزيونية، كما كنت أكتبها، أو كما كان يكتبها الراحل “أسامة أنور عكاشة” وباقي جيلي – وأنا معه تماما فيما قال – ويقول : أما التطورات التي لحقت بالدراما باستخدام الكاميرات السينمائية في المسلسلات، لا يمكن أن أرفضه، هذا أمر جميل ومحبب، ويسهل الكثير من الأمور، لكن لا تنسى أن الدراما في الأصل مشاعر وليست تقنيات – وما أكثر خلو مسلسلاتنا من المشاعر – هذا هو سبب الارتباك الآن بعد اقتحام السينمائيين للدراما التلفزيونية، لأني كما قلت سابقًا: الدراما لها قواعد والسينما لها قواعد أخرى، وهذا ما تسبب في حدوث فجوة كبيرة، تجعلك عندما ترى مسلسلاً لا تعرف هل هو مسلسل أم فيلم سينمائي!.
ولعل أجمل وأبلغ ماذكره “عبد القوي” في كل أحاديثه هو حديث ذو شجون حول وظيفة الدراما التي يراها: “عرض الواقع كما يجب أن يكون، وليس فضح المجتمع وإهانة كل الطبقات، فالدراما ليست مطالبة بعرض واقع الشارع كما هو، وإنما المطالب بذلك هو الإعلام، فهناك فرق كبير بين الإعلام والإبداع، فالمبدع يأخذ من كل المناحى والطبقات ويستجمع ذلك فى عمل فنى راق، عكس صفحة الحوادث والصور الفوتوغرافية”.
عودته لحضن الدراما
وتبدو رؤية “محمد جلال عبد القوي” الصادقة لوظيفة الدراما واضحة تماما لو تأملنا أعماله وأعمال جيله التليفزيونية الساحرة، فلا يزال “المال والبنون والشهد والدموع وعصفور النار وأولاد آدم” وغيرها موجودة حتى الآن في وجان الجماهير، رغم مرور سنوات طويلة على عرضها، ومازال الناس يستعذبونها، وهذه الأعمال هى التى تضيف للناس، ولهذا فهو يزعم أن الدراما الآن هى ديوان العرب، وإن كان ديوان العرب اهتز إلى حد ما، لذلك نطالب بأن يكون للدراما التليفزيونية مهرجاناتها وجوائزها أسوة بنوبل وكان، ولكن لا يزال هذا الصنف مهملا حتى الآن.
وفي النهاية : ظني أن عودة “عبد القوي” إلى حضن الدراما المصرية من جديد، وفق التعاقد بين المتحدة للخدمات الإعلامية متمثلة فى رجل الأعمال تامر مرسى، ومحمد جلال عبد القوى على مسلسل “زين الحسنى”، بادرة طيبة لتعيده بعد سنوات طويلة غاب فيها عن الشاشة التليفزيوينة منذ أن قدم مسلسل “شرف فتح الباب “، من بطولة النجم الكبير يحيى الفخرانى، والذى عرض عام 2008 ، ويعد هذا سببًا كافيا في وجودِ منافسة قوية، فوفقًا لخريطةِ الأعمال الدرامية فإنه لم يحدث تغيرٌ كبيرٌ في أسماء كتاب سيناريو دراما رمضان 2020 أو غيرها من مواسم أخرى؛ ويبدو لي واضحا أن هناك سعي حثيث من جانب “الشركة المتحدة” لعودة كبار صناع الدراما التليفزيوينة الكبار والقدامى، والذين ابتعدوا عن الساحة الفنية، بسبب التخبط الذى شهده الوسط الفنى على مدار السنوات الطويلة الماضية، والتى أبعدت كثيرين عن الساحة الفني ، وسيكون للذلك أثره الإيجابي في اعتدال المشهد الدرامي برمته.
ويبقى أن نقدم لكاتبنا الكبير محمد جلال عبد القوي، تحية تقدير واحترام مشفوعة بالمحبة على مسيرته المشرفة في الدراما المصرية، ونقول له : متعك الله بالصحة والعافية، ودمت لنا مبدعا تليفزيونيا لا يشق له غبار، بما قدمته من روائع الأعمال التي ستظل راسخة في وجان المصريين، بما حملته من قيم الحب والعدل والحرية.