(الوردة البيضاء).. رائعة عبدالوهاب التى كانت البداية الحقيقية للفيلم الغنائي
* المخرج (محمد كريم) يصور عبدالوهاب فى إحدى حفلاته الغنائية حتى يرى مدى صلاحيته للسينما
* التيفود يمنع (نجلاء عبده) من استكمال دورها فدخلت (سميرة خلوصي) التاريخ
* “سوالف” عبدالوهاب تثير ضجة في القاهرة والصحافة الفنية
* بعد عرض الفيلم حملت العطور والمحلات اسم (الوردة البيضاء)
* أم المصريين صفية زغلول تشاهد الفيلم وتتمنى التوفيق لعبدالوهاب
* مصطفى النحاس باشا: مشروع وطني مصري ناجح، ولا تقل رواية (الوردة البيضاء) فى فخامتها عن أي رواية أجنبية
* الدكتور طه حسين يمتدح المطرب الشاب ويكتب انه خلق للمجد
كتب : أحمد السماحي
كانت السينما فى بدايتها حلم لكثيرين من الفنانيين، بقدرتها على الوصول إلى جماهير واسعة فى كل مكان، وفكر (محمد عبدالوهاب) أن يطرق باب هذا الفن الجديد، لكنه كان يخاف السينما رغم حبه لها لخوفه من الفشل، وقام بعمل أول أفلامه (الوردة البيضاء) عام 1933
وذلك بعد أن أقنعه المخرج العائد من ألمانيا (محمد كريم) بأن نجاحه مؤكد فهو مطرب يتمتع بشهرة واسعة، وهناك ملايين الذين يتمنون مشاهدته والاستماع إليه، والسينما تحقق له ذلك الهدف.
اقتنع (عبدالوهاب) وارتبط بالمخرج (محمد كريم) في كل أفلامه السبعة، بداية من (الوردة البضاء) عام 1933 وحتى عام 1946 تاريخ عرض آخر أفلامه (لست ملاكا).
محمد كريم يروي كواليس الوردة
يروي (محمد كريم) في مذكراته التى نشرها الناقد (محمود علي) ظروف تعرفه بالموسيقار (محمد عبدالوهاب) وإخراج فيلم (الوردة البيضاء) فيقول: ذات يوم دق جرس التليفون وإذا المتحدث صديق الطفولة الفنان (توفيق المردنلي) الذي طلب مني أن نتقابل.
وبالفعل تقابلنا وفي المقابلة طلب مني عمل فيلم لـ (محمد عبدالوهاب) الذي كان فى تلك الفترة يصافح يد المجد والشهرة، ويشد عليها فى حرارة، ورحبت جدا، رغم أنني لم أقابله إلا مرة واحدة فى إحدى ليالي فبراير 1931 أثناء إحيائه حفل في مدينة (الزقازيق)، وكنت هناك بالمصادفة مع زميلي المصور (حسن مراد)، لإخراج فيلم تسجيلي بعنوان (التعاون).
وحضر (عبدالوهاب) لمقابلتي ومعه صديقنا المشترك (توفيق المردنلي) واتفقنا على الفيلم، ولم يكن لدينا رواية، ولم نكن قد وقع اختيارنا على البطلة التى تمثل أمامه، ورغم هذا فقد اقترحت للفيلم الذي لم نعرف قصته بعد أحد اسمين: (الوردة البيضاء) أو (الوردة الحمراء)، وعرضت الأسمين على (عبدالوهاب) ففضل (الوردة البيضاء).
وبحثنا عن رواية وعندما لم نجد، بدأنا نكتب نحن الرواية، فاشترك فى تأليف القصة والحوار (سليمان نجيب)، و(توفيق المردنلي) وأنا، بل و(عبدالوهاب) نفسه وإحدى السيدات!، وكان يحضر اجتماعات التأليف فى بعض الأحيان بعض المعارف، كانوا يتدخلون فى المناقشات، وكنا فى كل المجالس نتكلم ونناقش موضوع الرواية، وبعد أن انتهينا من تأليف الرواية وحددنا المواقف الغنائية، اتصل (عبدالوهاب) بالشاعر (أحمد رامي) وطلب منه تأليف الأغاني.
مشاهدة عبدالوهاب وهو يغني
وأثناء ذلك طلبت مشاهدة (عبدالوهاب) وهو يغني في حفلة عامة لسبب مهم جدا، في نظري اذ أننى أعرف أن أكثر المطربين يقلبون سحنتهم وهم يغنون أو تبدو تقلصات فى عضلات وجوهم أو يفتحون أفواههم بشكل منفر إلى آخر هذه الصور التى تبدو على وجه المطرب وهو يغني، وكنت أخشى أن يكون (عبدالوهاب) من هذا النوع، لكن عندما شاهدته وجدته طبيعيا لا يتغير ولا توجد فيه أي تجاعيد منفرة.
ويستكمل محمد كريم كلامه قائلا: ما أن فرغنا من مشكلة تأليف الرواية حتى واجهتنا المشكلة الثانية من تكون بطلة (الوردة البيضاء)، ورغم أنه كان عندي عشرات الصور لآنسات من عائلات طيبة، لكن لكل منهن عيبها الخاص أو مشكلتها الخاصة، وطال بحثنا عن البطلة المنتظرة، وشاركتنا الصحافة الفنية فى البحث عنها، إلى أن تقدمت (نجلاء عبده) كريمة أحد العاملين معنا، فاتفقنا معها فورا.
وبدأنا تصوير المناظر الطبيعية، وبعدها بدأنا تصوير الأشخاص، فبدأت تصوير مشاهد لكلا من (زكي رستم) و(نجلاء عبده)، وصورنا لهما مشاهد رائعة، وفوجئنا بمرض (نجلاء) بطلة الفيلم بالتيفود، وكان مرضا خطيرا يتطلب علاجا وفترة نقاهة قد تصل إلى ثلاثة شهور، قإضطررنا مرغمين لإستبدال البطلة.
سميرة خلوصي
ارتبك العمل فترة، وبدأنا من جديد نبحث عن بطلة، وبدأت الصحف ترشح آنسات من جديد، ولكننا لم نوفق إلى إختيار واحدة إلى أن اتصلت بي (دولت أبيض) وقالت لي أن شخصا تعرفه رشح لها آنسة اسمها (سميرة خلوصي) تصلح للحلول مكان (نجلاء)، وقابلت (سميرة) وكان عمرها أصغر من 16 سنة.
وبعد إجراء التجارب اتضح أنها صالحة، وهى من أم فرنسية وأب مصري انفصلا بالطلاق، وكان علينا أن نحصل على موافقة ولي أمرها، ووقعنا في حيرة، هى تكفي موافقة أمها، أم لابد من موافقة الأب كذلك، وبعد بحث أرسلنا للأب وهو من كبار الشخصيات، وكانت مفاجأ لنا حين وافق ورحب بالفكرة والمشاركة في (الوردة البيضاء).
واتفقنا مع (سميرة) على الأجر متضمنا ثمن الملابس اللازمة للتمثيل واشترطت على والداتها وهى تتسلم المبلغ المدفوع أن تنتقي أفخر الملابس لأن (سميرة) تمثل دور كريمة (إسماعيل بك) وهو من كبار الأثرياء، فلابد أن تكون الملابس من النوع الفاخر، وقد ذهلنا، ونحن نستعرض الملابس التى أحضرتها (سميرة) ووالدتها.
كانت كلها ملابس من النوع الرخيص، والذي لا يتناسب إطلاقا مع مستوى الشخصية التى تمثلها، وذلك لأن الأم اشترت بالنقود التى دفعناها ملابس لها، وقبعة، واشترت لابنها ملابس كذلك، أما (سميرة) فكان نصيبها ملابس رخيصة الثمن، فاضطررنا إلى إعداد ملابس فاخرة على حسابنا.
(سوالف) عبدالوهاب تثير ضجة
واجهتنا مشكلة كبيرة مع (محمد عبدالوهاب) أصبحت بعد ذلك شهيرة وكتبت عنها معظم الصحف، تلك هى مشكلة (سوالف) عبدالوهاب التى كانت تتدلى على صدغيه محاذية لأذنية، وكانت طويلة على غير المألوف، ولقد رفضت أن يظهر بهذه (السوالف) التى أصبحت موضة بين الشبان وطلبة المدارس تقليدا له.
ورفض أن يقص السوالف، وقال لي: (يا أستاذ كريم أنا مشهور هذه السوالف ولما أقصها مش هكون أنا)، فقلت له: (دورك دور شاب كاتب فى دائرة، و(السوالف) دي رمز للفنانيين، وهذه لا تتفق مع شخصيتك فى فيلم باسم (الوردة البيضاء).
وبعد مجهود كبير اتفقنا على حل وسط هو تقصير (السوالف)، ولا أنسى اليوم الذي حضر فيه (الحلاق) وعندما شرحت له المطلوب، واقترب منه ألقى بالموسي على الأرض وقال في هياج وثورة: (لا يا أستاذ حرام ما أقدرش أعمل كده فى الأستاذ البلبل، أنا ما اتحملش مسئولية قصها، حرام يا ناس !!)
وبعد مجهود مضن استطعنا اقناع الحلاق، وبعد قص (السوالف) بدأت الاحتجاجات تنهال علي من كل مكان، وتدخلت الصحافة الفنية، وكان (عبدالوهاب) يقول لي: شايف يا كريم ؟ فكنت أقول له: معلش بكره ينسوا لما يتعودا عليك من غير (السوالف)!
السفر إلى باريس
بدأنا تصوير فيلم (الوردة البيضاء)، وكان جزء منه تجري حوادثه فى إحدى العزب فسافرنا إلى عزبة (مصطفى فودة)، صديق (عبدالوهاب) بالسنبلاوين، حيث قمنا بتصوير المناظر الخارجية المطلوبة، وقد استبشر (عبدالوهاب) بهذه العزبة، فكان يصور فيها كل أفلامه.
وقررنا بعد ذلك أن نسافر إلى أوروبا لتصوير باقي الفيلم وتسجيل الصوت فى إحدى الأستديوهات الأوروبية، وكان هناك فكرة للسفر إلى برلين، لكننا فضلنا أن نقصد باريس، وبدأنا العمل في استديوهات باريس وكان عملا شاقا مضنيا مرهقا للأعصاب، وبعد أسابيع من التصوير ومع أواخر نوفمبر عام 1933 انتهينا من عمل مونتاج فيلم (الوردة البيضاء)، وقمنا بطبع 13 نسخة، وعدنا إلى مصر لعمل الدعاية استعدادا لعرضه في سينما (رويال).
ضجة كبرى بسبب (الوردة البيضاء)
كانت حفلة العرض الأول فى العاشرة والنصف من صباح يوم 4 ديسمبر 1933، قبل الحفلة الأولى بساعة كنت فى السينما، كنت أخشى الفشل وداخلني وقتها شعور غريب، لكن بعد انتهاء عرض الفيلم وجدت الجمهور يصفق دقائق طويلة، وحمدت الله أن الجمهور استقبل الفيلم استقبالا رائعا، ومثل كل شيئ جديد يصادف نجاحا فقد كان اسم (الوردة البيضاء) من عوامل الرواج التجاري.
إذ انتجت مصانع النسيج (حرير الوردة البيضاء)، وفتح فندق بنفس الاسم، وحملت (كولونيا) اسم الفيلم، هذا غير محلات البقالة والمكوجي، بل لقد ظهرت لافتة (حانوتي الوردة البيضاء)..
برقيات تهنئة من العظماء
بعد عرض الفيلم تلقي الموسيقار محمد عبدالوهاب برقيات تهنئة من كبار رجال الدولة المصرية، فضلا عن الأدباء والمشاهير، فقد شاهدت أم المصريين (صفية هانم زغلول) الفيلم، وأرسلت باقة ورد كبيرة لمنزل عبدالوهاب عليها كارت تتمنى له التوفيق في مشروعاته الوطنية المستقلة القادمة.
وقال (مصطفى النحاس باشا) عن الفيلم : أنه مشروع وطني مصري ناجح، ولا تقل رواية (الوردة البيضاء) فى فخامتها عن أي رواية أجنبية شاهدها، وفي كل مرة يشاهد الإنسان هذه الرواية تظهر له محاسن لم يكن يراها في المرة السابقة.
وكتب الدكتور طه حسين قائلا: تهنئة أريد أن أهديها خالصة صادقة إلى (عبدالوهاب) بعد أن شاهدت فيلمه، وبعد أن شاهدت رضا الناس عنه وإعجابهم بها، ولست أدري أهنأه بما وفق إليه من الإجادة والاتقان، أم بما وفق اليه من رضا الناس واعجابهم، أهنأه بالأمرين جميعا؟ فكلاهما خليق أن يهنأ به، وعبدالوهاب خليق أن يظفر منها بأعظم حظ ممكن.
البداية الحقيقية للفيلم الغنائي
يقول الناقد السينمائي الراحل (على أبوشادي) فى كتابه (كلاسيكيات السينما العربية): رغم أن فيلم (أنشودة الفؤاد) يسبق (الوردة البيضاء) إلا أن معظم المؤرخين والنقاد يعتبرون فيلم (عبدالوهاب) البداية الصحيحة للفيلم الغنائي المصري.
فقد نجح (عبدالوهاب وكريم) فى التخلص من المقدمات الموسيقية الطويلة التى كانت تلازم أداء مطربي ذلك العصر والتى لا تتناسب مع طبيعة السينما، بل إن (عبدالوهاب) قد أدخل بعض الألحان الغربية مثل (الرومبا) فى أغنية (جفنه علم الغزل) في الفيلم.
ويبدو اجتهاد (محمد كريم) واضحا في ثالث أفلامه بعد (زينب) الصامت، و(أولاد الذوات) الناطق، فبرغم صعوبة حركة الكاميرا فإنها كانت تأتي أحيانا بحركات تتسم بالجرأة نفذها المصور (بريما فيرا) ببراعة مثل حركة الكاميرا على رصيف المحطة أثناء سفر العائلة إلى العزبة.
وفي مشهد وصول (جلال) إلى العزبة في حنطور تتابعه الكاميرا حتى يقترب من باب القصر، تتحرك إلى أعلى لنكشف عن “رجاء” تقف فى الشرفة، ثم تعود مسرعة إلى (محمد مرة أخرى).
كذلك استخدم (كريم) كل وسائل المونتاج المتاحة فى ذلك الوقت من مسح من الشمال إلى اليمين أو العكس واختصار الزمن عن طريق نتيجة الحائط أو الدائرة التى تتسع للكشف عن مشهد آخر.
ومن الاجتهادات الرقيقة المزج بين دخان القطار وسيجارة (فاطمة) حيث نراها ترفع وجهها في حركة مسرحية وتنفث الدخان إلى أعلى، وحين يتصاعد الدخان يمزج (كريم) فى اللقطة التالية مع دخان القطار المندفع من المدخنة.
……………………………………………………………………………………………………………………..
بطاقة الفيلم :
رواية مصرية غنائية وضع فكرتها : محمد متولي
أعدها للسينما : محمد كريم
الحوار تأليف : سليمان نجيب، توفيق المردنلي
الأغاني : أحمد رامي، أحمد شوقي، بشارة الخوري
ألحان : محمد عبدالوهاب
مناظر الرواية أخذت باستوديو: توبيس ببارس
المصور بمصر وباريس : بريما فيرا
الممثلون : محمد عبدالوهاب، دولت أبيض، سميرة خلوصي، سليمان نجيب، زكي رستم، محمد عبدالقدوس، توفيق المردنلي.