الساحر والمبهر ودرة الفن المصري في (ليالينا 80)
كتب : الناقد المجهول
الساحة الفنية مليئة بالتفاهات والأعمال المسلوقة والقيم المهدرة، والزعيق والمدعين، واختلاط الحابل بالنابل، فأي بنت جميلة باستطاعتها بربع موهبة أن تكون بطلة لمسلسل طالما يساندها “أونر” مصري أو خليجي، وأي إنسان كتب يومياته باستطاعته أن يكون مؤلفا تليفزيونيا طالما مؤدب ويسمع كلام البطل والبطلة ويكتب لهم ما يريدونه، وأي فنان جاهل نجح بفضل وسامته أو عضلاته، أو أقربائه فى الوسط الفني أو مساندة بعض النساء أو الرجال الأغنياء! يستطيع أن يكون بطل يشار له بالبنان، ونحن لا نعترض على هذا كله ولا نطالب بإيقافه أو الحد من تفاقمه المرعب، لكن هذه الفوضى تحدث أثرا سلبيا على حساب فنا وأدبنا وقيمنا الثقافية، ووصلت بوجداننا الفنى إلى حد الهلوسة والتخريف.
وفي مثل ذلك الجو يموت الفن الحقيقي، ويبتعد الفنان الذي يحترم نفسه واسمه، ويشاهد الجمهور أعمال من نوعية الكوميديا الرذلة السمجة التى نشاهدها هذه الأيام، أو يشاهد أعمال تتحدث عن رجال أعمال فاسدين من كوكب آخر غير موجودين على كوكبنا، أو يشاهد عشوائيات مليئة بالبلطجة والتدني الأخلاقي على جناح الفتونة أو الإسقاط العقيم على الواقع المعاش، أو حتى يشاهد موضوعات استهلاكية تعرض سيرة الحب الرومانسي بين الحلوة والغراب، فبسبب هذه الأعمال الفاسدة التى لا تحترم الحد الأدنى من المنطق حدث عند المشاهد حالة “فتور”، لكل ما يشاهده، وأصبح كالآلة يضحك ويحزن بدون مشاعر حقيقية.
لكن فى مع بداية شهر رمضان دوى انفجاراهتزت له شاشات الفضائيات، انفجار واضح وصريح، انفجار طال ترقبنا له، هز المشاعر وأسقط الدموع من أعيوننا، هذا الأنفجار هو “ليالينا80 ” المسلسل البسيط المليئ بالتفاصيل الدقيقة المبهرة من ناس نعرفهم، فهذه السيدة تسكن في شارعنا، وهذا الرجل يقطن في الشارع الذي خلفنا، وتلك الفتاة نشاهدها يوميا وهى راجعة من عملها منهكة، لكن علامات الرضا ترتسم على ملامحها، أما “الست راقية” زوجة البطل الشهيد، المكافحة “وتد” بيتها، وربنا أنا أعرفها، كيف طلت من على الفضائيات وتتحدث وتحكي قصتها، وهى جارتي التى أراها يوميا صابرة على الحياة القاسية التى أنستها أنوثتها، وطمست ملامح جمالها، ورغم هذا راضية على ابتلاء ربنا لها.
الساحر “إياد نصار”
هذا المسلسل بموضوعه الاجتماعي الذي أبدع تفاصيه “أحمد عبدالفتاح” أعاد بنا وذكرنا بأعمال العظيم “أسامة أنور عكاشة”، وأعاد لنا الثقة في الدراما المصرية، وقد كان فرصة للنجوم أبطال العمل أن تنطلق قدراتهم الأصيلة، فقدم كل منهما أداء ساحرا، فها هو النجم الأردني “إياد نصار” الذي شخص دور “هشام” بشكل ساحر، وقدم أكثر من مشهد بشكل رائع منها المشهد الصامت فى الحلقة الثانية الذي علم فيه بإصابة ابنته بالعمى، فنزل إلى الشارع وتذكر يوم مولدها وأعياد ميلادها وشقاوتها معه، وفى النهاية يبكي ويسقط بجوار السيارة، فأبكانا معه.
المبهر “خالد الصاوي”
أما المبهر “خالد الصاوي” فدور “جلال أرسطو” سيقف التاريخ الفني عنده كثيرا، ما كل هذا الإبداع ياعم خالد، ما كل هذه التفاصيل الدقيقة التى يعيشها بصدق وأمانة؟!، ما كل هذا الإخلاص للدورعلى المستوى الداخلي والخاراجي؟!، لم يكترث بشكله ولا تسريحة شعره، ولاعضلاته المترهلة بفعل سمنة يبدو أنها متعمدة، فعلى العكس مما يفعله غيره من نجوم “التيك واي” انصهر تماما مع “جلال أرسطو”، وأصبح ” جلال أرسطو هو خالد الصاوي” و” خالد الصاوي هو جلال أرسطو”، وقدم ونحن الآن فى الحلقة السادسة مشاهد لا تنسى، يهمنى أن أقف عند مشهد له فى المستشفي مع شقيقه “هشام” فى الحلقة الثالثة وجاء المشهد كالتالي :
جلال: سمعك من غير ما تتكلم، هتسألني ايه اللي جرالك؟ وايه اللي خلال بعد ما كنت أستاذ فلسفة قد الدنيا بتدرس نظريات أرسطو، لدرجة أن الناس بقت تسميني “جلال أرسطو”، وإزاي بقيت راجل بيخرف؟
هشام : أنت إيه اللي خلاك تقول إنها ..
جلال يقاطعه: أنا عارف إنها مش ناهد، بس ده اللي بيقوله العقل يا حبيبي، العقل اللي أنا قضيت أكتر من نص عمري، وأنا بفكر بيه وأنا أسير جواه لحد ما أكتشفت حاجة أهم وأخطر، تفسيرها أكبر، الإحساس، الإحساس اللي الموت ما بيقدرش عليه.
هشام : إنت لازم تستريح ما ينفعش!
جلال : أنا عارف إنك مش ناقصني، أنا عارف، ولا أقولك إحنا من أمتى وإحنا بنكلم بعض عشان نعاتب بعض دلوقتي، يا “هشام “، يمكن لو كنا قريبين أكتر من كده، ويمكن لو كانت بنتي معايا.
يا ” هشام” أنا مش راجل مريض، أنا إنسان وحيد بس!!
وتلعثم جلال وملامح وجه تنطق بكل عذابات الدنيا، ويقول حتى يخرج “هشام” من هذه الحالة : عايز أسرح شعري، ويطبطب على “هشام” ويقول له : ما تقلقشي … ويبكي.
هذا المشهد تحديدا زلزلني بشكل شخصي
درة الفن المصري “صابرين”
كما زلزلني ثلاث مشاهد للمعجونة بالتمثيل “درة الفن المصري”، وسيدة الأداء الرفيع الموهوبة بدرجة مذهلة “صابرين” التى تفاجئنا كل فترة بدور يؤكد أصالة موهبتها، وشاهدتها وهى تتحدث فى أول حلقة أمام قبر زوجها الشهيد، وهى في حالة من الوجد والتماهي مع الشخصية إلى حد الالتصاق بها حتى يخيل لك أن هذا ليس تمثيلا ولا تلك حركة كاميرا مصور حساس ولا مخرج محترف ولا مؤلف مجتهد!، بل خلاصة ما يمكن قوله أن هذا مشهد تم اقتطاعه من الحياة من أمام أحد المقابر لزوجة شهيد في مناجاة لاتدركها المشاعر فحسب بل تكتوي بها.
والمشهد الثاني في الحلقة الثالثة وهى تتحدث فى المستشفي مع ابنتها “فاطمة” وابنها ” راضي” نائم على السرير بعد علمها ببتر ساقه يبد أ المشهد كالتالي:
فاطمة : يا أمه بكره “راضي” هيفوق ويبقى زي الفل، وبعدين وحدة ايه اللي بتقولي عنها ما أحنا حواليك أهه.
راقية: الوحدة اللي محوطاني من يوم ما جابولي أبوكي وهو في صندوق وملفوف بالعلم، ساعتها قالولي أنت هتبقى مرات الشهيد، مرات البطل، ساعتها حسيت اني ما ينفعش أكون أقل بطولة منه، وأنا واقفة كده وبأخد الخبر، فجأة حسيت انى تحولت لقالب حديد قوي، شفت صورة أبوكي وهو عريس زي ما يكون بالظبط يوم فرحنا، كل اللي بقى على انى بقيت بزغرد أزغرد، أزغرد بصوت عالي، وأنا جوايا عمال يصوت، بس مش عايزة حد يسمعني، لأنى برضوا بشر.
اللي كنت بسند عليه وضهري راح مني، لأن صعب أوي لما تلاقى السند والضهر والقلب اللي شايل كل الهموم حواليك ويروح، ساعتها بس حسيت أني اتيتمت، بس كنت كل ما أشوف “راضي” يوم ورا يوم وهو بيتشد عوده وبيقف على رجله ويمشي، بقيت بأخد نفسي، وبحس ان نفسي بيتردلي تاني، وبحس أن روح أبوه جواه بتكبر وبتتحرك، وبقيت بحمد ربنا كل يوم إن ربنا بيعوضني، وكنت حاسة أن أبوكي سعيد أوي وفرحان أوي، لحد اللي حصله دلوقتي نايم دلوقتي!
فى هذا المشهد المتكامل الذي أجاد فيه المخرج المتمكن من أدواته “أحمد صالح” كان متقنا من كافة التفاصيل، من حيث إعطاء “صابرين” مساحة للتعبير بوجهها، والتقطيع على وجه “محمد عادل” وهو في السرير نائم يبكي بصمت من كلام والدته، دون أن يشعر به أحد، مع موسيقى “هانى مهنى” الرائعة المليئة بالشجن، وفى هذا المشهد الممتع المليئ بالشجن الذي أبكانا جميعا كان إتقان غول التمثيل “صابرين” بالتعبير بصوتها كاملا إلى درجة يكاد الإنسان يفقد معها الإحساس بوجود إنسانة إسمها “صابرين”، فلا يشعر إلا بالمعنى والعاطفة التى تعبر عنها “الست راقية”.
والمشهد الثالث لدرة الفن المصري “صابرين” فى الحلقة الرابعة وهى تشد من أزر ابنها “راضي” وتبث فيه الأمل، وهى التى تحتاج لمن يبث فيها الأمل، وفى نهاية المشهد الذي تحاول أن تتماسك فيه، لكنها لا تصمد كثيرا كأم مليئة بالحنان أمام بكاء ابنها فتقول له في نهاية المشهد “والنبي يا رجلي ما تعيط، والنبي ما تعيط هتبقى زي الفل”.
مسلسل “ليالينا 80” بابداع مؤلفه “أحمد عبدالفتاح” الذي سبق وأمتعنا وأحترم مشاعرنا وعقولنا بأعماله الراقية السابقة، وبإخراج مخرجه الموهوب “أحمد صالح”، وشجن موسيقى العبقري “بليغ حمدي”، في “التتر” و الموسيقى التصويرية المليئة بالمشااعر الدافئة للموسيقار المبدع صاحب التاريخ الفني “هاني مهنى”، وبأداء أبطاله يؤكد أن الفن المصري بخير، فشكرا شركة “سينرجي” على هذه التحفة الفنية المليئة بالدانتيلا، المشغولة بحرفية على جناح الأصالة، والمطرزة بالإبداع الحقيقي الذي يعكس براعة فريق عمل واع تدعمه شركة أكثر وعيا بقيمة الفن الحقيقي الذي يصيب الهدف في حينه، ونتمنى أن تكتمل تلك المعزوفة المفعمة بالبراعة على خير وبنفس المستوى، وللحديث بقية …