حكايتى مع ديزنى (9) .. اليوم الأول
بقلم المخرج المسرحي الكبير : عصام السيد
جاء اليوم الحاسم، يوم بداية التسجيل، كانت هناك شهور قد مرت منذ اللقاء الأول حول هذا المشروع فى يناير، وحان اليوم الأول للتنفيذ ونحن فى منتصف العام، و الصيف يكوينا بلهيبه. شهور من الترتيبات والاختبارات وتعديل الصياغة والتأخير فى الرد من شركة ديزنى، وبعد طول انتظار جاء وقت الامتحان حيث يُكرم المرء أو يُهان.
ليلتها لم أستطع النوم بشكل هادئ، فمن عادتى النوم فى وقت متأخر من الليل أو قرب الفجر، و أن أصحو قرب الظهيرة، ولكن على حسب موعد التسجيل الذى حددته – وهو الثانية عشر ظهرا – كان لابد أن أصحو فى العاشرة على الأكثر، ولكن الأرق لازمنى، وفى التاسعة صباحا قمت من سريرى قلقا و توجهت إلى الاستوديو.
وجدت حالة من الهدوء، والمكان يخلو من البشر إلا عامل النظافة الذى كان يمارس مهامه اليومية، وقفت خارج الاستوديو أنتظر انتهاء عملية النظافة، وانتبهت بعد قليل الى أنى أدخن بشراهة تنفيسا عن قلق مبالغ فيه.
تقاطر بعد قليل وصول موظفى الاستوديو ومهندس التسجيل ومساعدتى ، ووصل أول ممثل (كان على ما أذكر الفنان عادل خلف)، ومضى مهندس التسجيل يضع له الميكروفون ويجرب أفضل المسافات ووضع أوراقه على حامل النوت الموسيقية، و بدأنا فى تسجيل أول شخصية.
بعد جملتين طلبت منه التوقف، فلقد لاحظت أنه يؤدى كل جملة بطريقة مختلفة – برغم إنها بنفس الصوت – و كأنها ليست صادرة عن نفس الشخصية.
أعدت له شرح الشخصية وتفاصيل تصرفاتها حتى يكون هناك خط رابط بين انفعالاتها، وتركته يشاهد الفصل الأول للفيلم كاملا (حوالى 20 دقيقة)، ثم بدأنا فى التسجيل مرة أخرى.
مع كل جملة كنت أكتشف أشياء كثيرة، و كأننى كنت أدخل الى عالم آخر ، عالم مختلف له قوانينه الخاصة و المنفردة ، و لكن الإكتشا الأكبر والذى تنامى داخلى على مدار العمل، ومازلت أؤمن به حتى الآن: أن مانقوم به أصعب بكثير من صناعة الأصل.
الممثل فى اللغة الأصلية للفيلم يسجل صوته على صور ثابتة، تشبه مجلات الكوميكس، (Story board)، وبعدها يقوم الرسامون بتحريك الشخصية ورسم انفعالاتها طبقا لأداء الممثل، ويحركون (فم) الشخصية على حسب نطقه وفى نفس زمن نطق الكلام، ومن الممكن للممثل أن يضيف أو يحذف أو يُعدّل بعض الألفاظ (مثلما فعل روبن ويليامز فى شخصية الجنى فى فيلم علاء الدين)، فالفيلم لم يصل بعد لصورته النهائية وإنما يصلها بعد تسجيل الصوت وليس قبله.
أما نحن فلا نملك تلك الرفاهية، فنحن نتعامل مع فيلم قد اكتمل، ولذا فنحن محكومون بعدة عوامل: لقد أصبحنا مقيدين بنفس الحوار ونفس الانفعالات، ولكن نقوم بأداء الشخصية بلغة مختلفة عن الأصل، و برغم الاختلاف يجب أن يكون الحوار فى نفس الزمن، وأيضا بأقرب مايكون لحركة فم الشخصية المرسومة، فليس من المعقول أن تغلق الشخصية فمها فى نهاية الجملة (لأنها تنتهى بحرف M مثلا)، وفى اللغة العربية تنتهى الجملة بحرف هاء أو ياء، و ليس من المعقول أن يكون الحوار فى اللغة الأصلية مكون من ثلاث كلمات، ويكون النص العربى مكون من 6 كلمات، ربما استطعت نطقها فى نفس الزمن ولكن فمك سيتحرك أسرع وأكثر من المرسوم و الظاهر على الشاشة.. و هكذا.
ولذا فلزاما علينا أن يراعى الممثل إحساس الشخصية وحركة فمها سرعةً وبطأً، انفتاحاً و إنغلاقاً، و أن يبدأ معها و ينتهى معها (هذه العملية تسمى التزامن أو السينك كما يقولها أهل المهنة)، وهو مايُصعّب العمل ويجعله مضنياً، فكثيراً ما توقفت لأبحث عن لفظةٍ بديلة تنتهى بحركة فم تشبه الصورة، أو لأختصر جملةَ أو أُطيلها، وكثيراً ما كنت أقترب من الشاشة و أحملق بها لدقائق طويلة، وأنا أَعيد المشاهدة عدة مرات لأتأكد أن خدعتى فى تجاوز التزامن لن تُكتشف .
هل هذا من باب التزيُد؟ من وجهة نظرى: هذا ما يجعل المشاهد ينسى أن الفيلم مدبلج، فلن يحس بغربة إذا رأى الصورة تطابق الكلمات والتزامن بينهما على أعلى درجة ممكنة، بالطبع إلى جانب صدق الأداء، و ليس تنغيم الصوت فقط – دون حاجة أو هدف – وهذا ما كنت أرفضه تماما، وهو السبب الرئيسى لكراهيتى للدوبلاج قبل العمل به، فلقد كنت أستاء أشد الاستياء من ممثلى الدوبلاج – و خاصة فى اللغة العربية الفصحى – و هم يتمادون فى تلوين أصواتهم بلا سبب أو دافع أو هدف سوى ألا يصبح على وتيرة واحدة، ونسوا أو تناسوا أن تلوين الصوت يجب أن يكون نابعا من الموقف والشخصية والمعنى الذى تريد إيصاله، وهناك مثل شهير عن عبارة: “صباح الخير” وكيف عن طريق تلوين الصوت من الممكن أن تكسبها عدة معانى مابين السؤال و الإستنكار والأسى وربما حتى السب.
وأيضا كنت أكره عدم تنغيم الصوت عند الضرورة، وأبسط مثال: عندما ينادى شخص على آخر و يكرر النداء، فمن المنطقى ألا تكون الثانية مثل الأولى وإلا ما كرر النداء، وهو مايغيب عن بعض الممثلين فتجد النداء مكررا بنفس الطريقة.
ومع مرور الأيام واختلاف الممثلين، بدأت مشاكل أخرى فى الظهور لم تكن فى الحسبان، فبعض البشر ينطقون بعض الحروف مضخّمة مما يسبب مشاكل فى التسجيل، مثل حرف الباء وهو حرف إنفجارى ينتج عن احتجاز الهواء ثم إطلاقه من بين الشفتين، مما يسبب فى الميكروفون صوتا و كأنه (خبطة) وعلاجه أن يبتعد الممثل قليلاً عن الميكروفون، فكيف ومن المفترض أن يظل محافظاً على نفس المسافة يوميا ؟، والحل الآخر أن يتحكم فى كم الهواء المنفجر، ولكن هل يستطيع التحكم فى كمية الهواء الخارجة بعد أن قضى عمره ينطق الباء بنفس الطريقة؟، هل يبتعد كلما جاء هذا الحرف؟ أم من الأفضل أن نعيد ترتيب وقفته ونُعيد التسجيل من أوله؟، وإذا تغلبنا على الباء فماذا نفعل فى الخاء التى تخرج من فم البعض مشتملة على كاف وخاء وقليلا من الغرغرة؟.
فى وسط تلك التفاصيل لابد و أن تجد الممثل الذى تجهده الوقفة بسرعة فيطلب الجلوس، فتعيد ضبط الميكروفون وتعيد التسجيل من البداية، أوصاحب المزاج الذى يطلب أن يحتسى الشاى و هو يعمل – و هو مايزيد اللعاب فى الفم و يسبب مشاكل فى النطق – أو من تعود على التنفس من الفم بين الكلمات فيظهر صوت الشهيق مسموعا وربما مشفوعا بصوت آخر بسبب اللعاب، والأمثلة كثيرة !
ولكن الكل اجتمع على ضرورة التوقف كل فترة للخروج من جحيم الاستوديو الذى أُضطررنا إلى تخفيض التكييف فيه لأن صوته كان ظاهرا بالتسجيل.
ومع الأيام تعلمنا وإزددنا خبرة، و صار وضع جدول الأسبوع التالى أسهل وأيسر، فقد ظهرت لنا معالم تحدد عدد الساعات التى تحتاجها كل شخصية للتسجيل حسب حجم عملها، ودائما ما كنت ألجأ الى إعادة تسجيل اليوم الأول فى نهاية الأيام بعد أن يتمكن الممثل من الشخصية.
فاليوم الأول يتضمن المشاهد الأولى للشخصية، فلابد من براعة الاستهلال، وهو ما يتطلب إجادة تقديم الشخصية التى يحصل عليها الممثل بالخبرة على مدار أيام التسجيل، ولكن إصرارى على الإجادة هذا كان يجر علىَّ المشاكل.