عفاف راضى.. الغنوة الباقية
بقلم : محمد شمروخ
“بنت جميلة يا ابتسامة صابحة وغمازتين.. رامية ضفايرها على كتافها، خرجت تسقى قصارى الزرع هي تدندن بأغنية على سور البلكونة لتصعق قلوب شباب الحتة وهي تراقبهم بطرف عينين ساهمتين على أهدابهما صراع بين الخجل والجراءة.. وفجأة البنت دخلت وقفلت الشيش وراها بعد ما خطفت قلوبنا.. بس لسه سامعينها بتغني”.
يا ترى البنت دي من شبرا؟.. لا.. من العباسية؟.. ولا يمكن من طنطا ولا المنيا ولا المنصورة ولا إسكندرية؟!
هذه بالضبط هى الصورة التى يجسدها خيالي كلما سمعت “عفاف راضي” فلو قالوا عن صوت عفاف إنه أوبرالي بامتياز، فلن أعيش عليكم الدور بأننى أفرق بين الصوت السبرانو والصت الحياني، لكن بإمكانى أن أصف “حس” عفاف بأنه “مجسم ثلاثى الأبعاد” فنحن نسمى الصوت “حس” من فرط ما يبعث فينا من إحساسن، بل ما يجسده من أحاسيس، فعفاف هي الحس المجسد للفتاة المصرية، فيه خليط عجيب من الجرأة المنطلقة يكبح جماحها خجل جميل، حس هوانمي وقور من الزمالك، لكنه ممزوج بدلع بناتى من الجمالية!.
هكذا حفرت عفاف بحنجرتها الماسية مجرى عميقا لنهر يفيض بالإبداع والجمال، فلا تغني أغنية، حتى تجد مصر كلها ترددها من وراءها!
وفي عز العصر الذهبي يا مولانا وبين كل صفوف عمالقة الطرب، سمعناها وميزنا حسها وإحساسها وهي تغني “وحدي قاعدة في البيت”، فترى في الأغنية فيلما سينمائيا مكتمل الأحداث بكامل طاقمه وأفيشاته وبالسيناريو بالحوار بالمنتج بالمخرج بالممثلين وبينهم البطلة السوبر جالسة وحدها تشكو حالها وتبكي فتخرج الفتيات في صالة السينما مناديلهن ليمسحن الدموع!.
وبعدها تسمعنا “تبسم والنبي”.. فتتبسم مصر كلها وراءها لتغنيها البنات في الأفراح والشباب في المقاهي ويركض بها الأطفال خلف المدرس الكشر ليغيظوه قبل أن يختفوا في الدروب وهو يصيحون مقلدين وتيرة عفاف “تبسم”.. حتى سمعنا الشيخ كشك – ربنا يرحمه ويسامحه – يضمها في انتقاداته اللاذعة إلى قائمة الخالدين “أم كلثوم عبد الحليم – فايزة أحمد – شادية – محرم فؤاد “، وكثيرين من الذين لم يفلتوا من لسانه، لكنها في النهاية – وإن لم يقصد- شهادة منه بقوة التأثير العفافي حتى وصل صوتها إلى منبر مسجد عين الحياة بحدائق القبة حيث كان كشك يخطب كل جمعة.
وأنت إذا أن تعرف مدى تأثير أي عمل فني لاسيما الأغاني، فانظر كيف يردده الناس فيصير من أمثالهم العامية فيسخرون به من أحوالهم ويصيرونه قفشات في حواراتهم ومداعباتهم وحسب وعد معي.. كم مثل وقفشة أخذناها من أغانى عفاف راضي؟!
وخدها من أول “ردوا السلام” و”تساهيل” و”النبي ده حرام” و”يهديك يرضيك” و”تعالى جنبي” و”كله في المواني يابا”.
وأنا شخصيا كمواطن من أعماق الصعيد الجواني، ارتبطت وجدانيا بصوت عفاف راضي، فكنت أسمع فتاتي المجهولة التى لم أرها ولم ترانى ولم أعرفها ولم تعرفنى، بل لم تتكون بعد إلا في غياهب الحلم، ومع ذلك أسمعها تغنى لي بصوت عفاف تودعنى في كل سفر.. “يا وابور الساعة 12 يا مقبل على الصعيد”!.
ولعل عفاف راضي هي المطربة الأخيرة التى لحقت بعصر الغناء الذهبي للأطفال بمجموعة أغاني مازالت الأمهات “يهشكن” بها أطفالهن حتى الآن.
وعفاف بيننا الآن في عزلتها الاختيارية، لكنها ثروة حية باقية بيننا، لا ننساها لأنها غير قابلة للنسيان، فهى وإن كانت أصغر واحدة لحقت بعصر عمالقة الغناء، إلا أنها لمعت واتخذت مكانها وحققت ذيوعا في وقت كانت الجماهير تتردد على حفلات “أم كلثوم وعبد الحليم وفريد وشادية وفايزة ونجاة وفيروز وعبده ووردة”، وغيرهم من جهابذة الغناء، فذات ليلة من ليالي الربيع صعدت تلك الفتاة الأقرب لسن الطفولة إلى المسرح في حفلة من حفلات عبد الحليم حافظ ويقف بليغ حمدي بجلالة قدره يقود الفرقة لتغني عفاف “ردوا السلام” ومازلنا نرد السلام حتى الآن.
وللعلم.. “فقد كتب هذه الكلمات على أثر سماع باقة من الأغاني العفافية من إذاعة الأغاني على موجات الراديو، فشكرا للإذاعة المصرية، لأنها تصر على تطهير آذاننا وقلوبنا ووجداننا بمصوغات فريدة من درر أغاني الأجيال الماسية في مسيرة الموسيقى المصرية وسط كل هذا الضجيج!.