كتب : محمد حبوشة
لاشك أن الفضائيات الخاصة المصرية في فترة من الفترات خاصة بعد ثورة 25 يناير 2011، كانت صاحبة دور كبير في يقظة الشارع المصري، بل والشارع العربي أيضا، وذلك عندما مهدت لأحداث سياسية كبرى في المنطقة العربية كلها، وإن كان البعض يرى فيها جوانب سلبية؛ إلا أن هناك إيجابيات لا ينكرها أحد، وهى زيادة الوعي لدى المواطنين، لكنها هذه الأيام وفي ظل أزمة كورونا تعاني كثيرا من السطحية وغياب الهدف والرسالة، وللأسف نحن أمام حالة من التخبط لم تشهدها من قبل على مستوى المضمون السيىء برامجيا وغنائيا، وذلك عبر ما تم مؤخرا من عودة البرنامج السخيف “أبلة فاهيتا”، والذي يتمتع بقدر من الرزالة والسطحية والتفاهة وثقل الظل بشكل قد يصيب المشاهد بالغثيان في ظل الحجر الصحي المنزلي، وتلك من أعراض كورونا على ما أعتقد !!.
لست أدري ما هدف المسئولين عن تلك القنوات من عودة مثل تلك البرامج المستفزة، خاصة أنه يواكبها أيضا ظواهر أكثر سلبية من عودتها في حد ذاتها على مستوى الضيوف، فقد استضافت “أبلة فاهيتا” المدعو “حسن شاكوش”، وهذا في حد ذاته يمثل تحديا جديدا من جانب إدارة القناة ومقدمة البرنامج لإرادة المجتمع وقرارات نقابة المهن الموسيقية، في ظل ما يحدثنا هذا “الشاكوش” فيه عن عصاميته في طريقه النضالي المفروش بالأشواك في سبيل الحصول على لقب “مؤدي مهرجانات”، عندما أصر في جهل أن يتحدى إرادة الجميع ويظهر على السطح من جديد، والغريب أن ثمة أضواء كاشفة سلطت عليه غير عابئة بتردي هذا اللون من المهرجانات في اجتياحه المقيت، في زمن نحتاج فيه إلى قدر من الرومانسية على مستوى الكلمة الهادفة التي يمكنها جلب طاقة إيجابية، ربما تفلح في أن تنقذنا من براثن العنف والعشوائية التي تقدم من جانب بعض المسلسلات التليفزيونية.
لقد عصرت على نفسي كيس يزن 5 كليو جرامات من الليمون – أي والله – كي أحتمل ترهات هذا الـ “شاوكش” الذي ظل يضرب بقسوة بحديثه الممجوج، وهو يستعرض تاريخ حياته في محاولة حثيثة على أن يكون “كيوت” – عكس طبيتعه من خلال تصنع الكلام – وإضافة قدر من خفة الدم المفتعلة، ناهيك عن نهيقه الغنائي الذي يدعك تخرج عن شعورك جراء النشاز وسوء الصوت الذي يشبه “طرقعة” الشاكوش الذي يدق المسامي في نفوخ مستميعه، والأتعس من كل ذلك أن المشاهد مضطر للمشاهدة في ظل أزمة كرونا التي أجلستنا جميعا في بيوتنا للأسف!
ومن هنا يبقى أكثر الشواهد على سوء أحوال الفضائيات والمحطات الإذاعية المصرية الخاصة، هذا الكم من التجاوزات التي كانت وراء إلغاء بعض البرامج وتبديلها ببرامج أخري يعتقد المسئولين عن القنوات أنها تأتي على سبيل تسرية المواطن الجالس في بيته قسرا، ناهيك عن الأخطاء الفادحة في الأسلوب واللغة، وامتهان كل القيم المهنية والأخلاقية للعمل الإعلامي من فرط فرض مذيعات ومذيعين ما أنزل الله بهم من سلطان، فضلا عن أن هناك سيل من الأغاني التي تواكب الأزمة على سبيل المتابعة للأحداث، وهى في غالبيتها تدور حول “جيش مصر الأبيض”، الذي ظهر معدنه الأصيل وقت الأزمة، فبدلا من رد الاعتبار لهؤلاء الناس الذين تحملوا على عاتقهم كثير من المتاعب والمشاق في سبيل إنقاذ الناس، تم الاستهانة بهم في شكل كلمات ركيكة وموسيقى صاخبة لاتناسب حالة السلام التي يعيشها أصحاب “البالطو الأبيض”.
لقد سمعت غالبية تلك الأغاني بحكم متابعتي لمجريات ما يحدث على ساحة الفن المصري خلال تلك الأزمة، ولاحظت أن تلك الأغاني تتسم بالسطحية ما يوحى بالإساءة في حق نوع من البشر بدا في قمة الإنسانية، ومن بين هؤلاء تلك المحاولة من جانب “شاكوش” – تاني – بعنوان “جيشنا الأبيض” والتي كتبها ولحنها وقام بتوزيعها أسماء غريبة وعجيبة المعنى على شاكلة “مصطفي حدوتة” للكلمات، والغناء والألحان لـ “حسن شاكوش”، والتوزيع “إسلام ساسو”، أما إدارة الأعمال فكانت من نصيب “كامبا وبالة”.. بالله عليكم ما هذه الأسماء المدهشة وماذا تعني بالضبط؟، هل انتهت الأسماء أم أن القبح أصبح ظاهرة مفروضة علينا في هذا الزمن الغريب والعجيب؟!
ويتضح لنا من كل ماسبق أن هنالك تحديا واضحا من جانب بعض الفضائيات لقرار منع “شاكوش” وأمثاله من الغناء، في وقت يدور فيه حديث صاخب عن سيطرة كاملة على مضمونها من جانب الدولة، وأن تلك القنوات يفترض أنها تحارب كل ما يخالف القيم، ومن ثم فلاينبغي لها أن تضرب بالأخلاقيات عرض الحائط وفي وضح النهار من ناحية، ومن ناحية أخرى تتحدى إرادة نقيب الموسيقيين وتعيد إنتاج شاكوش وغيره، والمبرر الجاهز دائما: أن من قام بعمل هذا النوع من الغناء الذي يشبه غثاء سيل يطلق عليه مهرجان أو أغنية لتحية أطباء مصر على جهودهم المضنية في ظل جائحة كورونا التي تضرب العالم حاليا ومن بينها مصر.
ألا يكفي كل هذا العبث ولا تبدو هناك أية أمارات لوزير الإعلام، أو المجلس الأعلى للإعلام لمراقبة هذا المضمون السيئ على مستوى البرامج والأغنيات التي تسيئ للإعلام المصري في هذه اللحظة الفاصلة من عمر الوطن، إن منصات إطلاق الصواريخ الليلية على الفضائيات الحالية بمضمون مختل يخالف قيم المجتمع يعد جريمة في حق الشعب المصري بعد احترفت قوافل الإعلام العبث في كل اتجاه؛ والسؤال المطروح الآن: من الذي أعطى هذه القنوات كل هذه المساحات في الفضاء لتعبث كيفما شاءت بعقول الشعب المصري؟!، إن الأخطر من هذا كله هو: عمليات التحريض التي تمارسها الفضائيات الخاصة ضد أبناء الشعب الواحد بضرب القيم وبث الخبيث من المضمون على أنه نوع من الترفيه في وقت الأزمة، أو انتهاجها نوع من التحرض الذي يطلق عليه خطأ “تحريض إيجابي” لتثمين دور جيش مصر الأبيض على هذه الشاكلة المشينة من الكلمات والألحان التي تسيئ أكثر مما تنفع!
الإعلام المصري الآن وفي كل الأوقات ياسادة يمثل واحدة من أخطر الأزمات التي تواجهها مصر، خاصة أننا نعيش أزمة أكبر منذ فترة ليست بالقصيرة، وهى عملية الخلط الواضح بين الإعلام والإعلان؛ لقد أصبحت هناك علاقة وطيدة لدرجة أن كليهما أصبح لا يستغني عن الآخر رغم التعارض الشديد في الدور والرسالة والمسئولية، ولكن التداخل في طبيعة العمل الإعلامي والإعلاني وصل بهما إلى منطقة واحدة من حيث الأهمية والتأثير، رغم خطورة هذا التداخل الذي أفسد دور الإعلام وشوه طبيعة الرسالة الإعلامية.
وقد ثار الجدل مؤخرا حول الصورة السيئة التي ظهر بها الإعلان المصري، وكيف تحول إلى وحش كاسر اجتاح في طريقه الكثير من الثوابت والتقاليد، بل والأخلاقيات التي ينبغي أن تحكم هذه النوعية من الأنشطة، رغم أن هناك فواصل وحدود واضحة وصريحة تحدد دور الإعلام ومسئولية الإعلان، فالإعلام نشاط ثقافي وفكري هدفه الحقيقة، وهى مسئولية أخلاقية، والإعلان نشاط تجاري هدفه الإعلان والترويج، الإعلام يلتزم بالوقائع، والإعلان لا يرفض المبالغة للوصول إلى الهدف، لكن للأسف الشديد منذ اختلطت الأدوار وتداخلت الرسائل؛ أصبح الإعلام دعاية، ولقد تحول الإعلان إلى وسيلة إعلامية لتضخيم الأدوار وتزييف الحقائق.
وفي ظل كوارث الإعلانات الحالية حدثت انقسامات خطيرة في السلم الاجتماعي في مصر، فنحن أمام شاشات تثير الحقد الطبقي بكل ألوانه وأنواعه، نحن أمام أنواع من الأطعمة الجاهزة لا يقدر عليها بسطاء الناس – سواء كان ذلك قبل الأزمة أوفي أثنائها أوبعدها – ورغم هذا يلح عليهم آلاف المرات كل يوم، ويشاهد الأطفال الصغار من أبناء العشوائيات نماذج مستفزة من المشروبات والأطعمة، ، فضلا عن أننا طوال الوقت أمام أنواع من الفيلات والقصور وأسعارها المحبطة بالملايين، في ظل وجود ملايين من الشباب بلا عمل، ونحن أيضا أما سيل آخر من أنواع من السيارات والملابس التي تطارد البسطاء كل يوم على تلك الشاشات العقيمة
إن مثل تلك الإعلانات المستفزة لا تشجع سوي على الإنفاق والإسراف، بل والسفه، والأغرب من ذلك أنها تستخدم لغة الحوار متدنية ومسيئة في غالبها بما تحمله من إيحاءات وكلمات فجة تتسم بالسوقية والابتذال، وهذا يتطلب منا إيجاد حلول عملية من جانب كل من وزارة الإعلام – التي لم يظهر لها أية كرامات سوى حرصة على الإقامة في مبنى شيك بجاردن سيتي – وكذلك رئيس المجلس الأعلى للإعلام – القابض على جمر كرسيه في تشبث عجيب في ماسبيرو – فربما يعتدل ميزان الإعلام “خاص وعام” على مستوى الهدف والرسالة، وحتى يتسنى لنا ذلك لابد من اعتباره قضية أمن قومي، وليس مجرد وسائل للترفيه والتسرية على مواطن يئن يوميا من السطحية والتفاهة التي أصبحت تغطي مجمل حياته!!!