حكايتى مع ديزنى(8) .. منى عيسى
بقلم المخرج المسرحي الكبير: عصام السيد
عندما تدخل استوديو إكو ساوند – فى ذلك الوقت – ستجد إلى يمينك مكتب صغير تجلس خلفه شابة ذات وجه ملائكى وصوت هامس، ولكنها قلب هذا الاستوديو وعينه الساهرة ، إنها منى عيسى، مديرة الاستوديو وسكرتيرة سمير حبيب – أيضا فى ذلك الوقت – التى لا يستغنى عنها.
هذه الشابة برغم رقتها و هدوئها و ابتسامتها المجاملة الدائمة تملك طبيعة صارمة فى العمل، وإذا كلفها مديرها بأمر فهى على استعداد لتنفيذه مهما كلفها.
كان السؤال الذى طرحته: كم من الأيام سيحتاجها كل ممثل لتسجيل دوره؟، ولكنى لم أكن أمتلك إجابة فى ذلك الوقت، ما الكم المتوقع إنجازه فى ثلاث ساعات من التسجيل؟، وماهى عدد الصفحات التى سينجزها فى اليوم؟، كيف ستكون استجابة كل ممثل للملاحظات وقدرته على التنفيذ؟، لم تكن لدى أى فكرة.
لكن منى كانت مصرة على الحصول على إجابة شافية، ليس هذا فقط بل طالبتنى بجدول منضبط لإبلاغ الممثلين جميعاً بالمواعيد – حتى لا نفاجأ بانشغال أحدهم – و عدد أيام عمل كل ممثل حتى يستطيع التنسيق لو كانت لديه ارتباطات أخرى، كان التقدير المبدئي أن العمل سيستغرق ثلاث أسابيع نعمل خلالها ستة أيام فى الأسبوع، و كل يوم 8 ساعات، و هى مصرة على الحصول على جدول الثلاث أسابيع وبكل دقة .
تهربت طويلاً، ولكن إصرارها و إلحاحها دفعنى للتفاوض معها، وتوصلنا إلى حل وسط: أن أعطيها جدولاً للأسبوع الأول فقط واعتبرت هى أن هذا الجدول نهائى، و كان فى ظنى أنه جدول قابل للتعديل.
بالطبع كنت أعلم أنه من الأفضل أن يقوم الممثل بتأدية دوره فى أيام متتاليات لا يقطعها انشغال بعمل آخر لفترة طويلة حتى لا يفقد تواصله مع الشخصية التى يؤديها ولا ينقطع أيضا إحساسه بالعمل، ولذا كانت مصرة على إبلاغ كافة الممثلين بمواعيدهم، ليرتبوا إرتباطاتهم الأخرى.
فهناك مثلا المطربة أمانى شوقى – التى تقوم بدور نالا – مقيمة بالاسكندرية، و حضورها للقاهرة يستلزم منها ترتيبات قبل الحضور بأيام، و هناك ممثلون مرتبطين بأيام تصوير وعليها أن تنسق معهم المواعيد !
أصابنى الاختناق من كثرة القيود التى تمثلت فى طلبات أصبحت بمثابة ضغوط، سواء من ديزنى أو من سمير حبيب، أو إدارة الاستوديو، و صار الشخص المتمرد فى داخلى والذى أحاول ترويضه طوال الوقت حتى (لا يضرب كرسى فى الكلوب) يقول: أنا إيه اللى جابنى هنا ؟
ولكن فيما بعد قدرت قيمة ما فعلته منى وما أصرت عليه، فلقد كان العمل يسرى فى دقة ونظام قلما شاهدته فى عمل آخر: إنها تبلغ الممثلين بجداولهم، وتنسق بينهم فى حال إنشغالهم، ثم تبلغهم بمواعيد التسجيل باليوم وبالساعة وبمنتهى الدقة، وعدد الأيام التى سيقضونها فى العمل، ثم تتصل بكل ممثل قبل موعده بيوم لتذكره بالموعد، وتتصل به قبل موعد حضوره بساعة أو اثنتين، وعندما ظهرت الموبيلات فى حياتنا كانت تتابع الممثل تليفونيا حتى يصل قبل موعده، وبذلك كان الوقت كله للعمل ولا هدر للوقت فى انتظار ممثل تأخر أو تلكأ، أو تحجج بارتباط آخر.
مضافا إلى اتصالها بكل ممثل قبل التسجيل بفترة كافية لتعطيه شريط فيديو عليه مشاهده فى الفيلم و حواره مطبوعا باللغة العربية .
وفى نفس الوقت كانت منى تقوم بأهم دور فى أى مهنة، انها حاملة حقيبة المال، و بمجرد أن ينتهى الممثل من تسجيل دوره بشكل نهائى، و بإقرار منى بأنى لن أحتاجه ثانيةً تقوم بتسليم الممثل (مظروفا بداخله الأجر) مصحوبا بعبارات الشكر والتقدير، وفى هذا التصرف تجلى (ذكاء) سمير حبيب الذى صنع له شهرة رائعة، فلم يؤجل يوماً حقاً لأحد، ولم يسوف فى أجر، بل لم ينتظر التحويل المالى من شركة ديزنى – الذى كثيرا ما كان يتأخر عن موعده – بل فيما بعد ساعد كثيرين ماديا، و قدم تسهيلات لكثيرين، فهذا يحتاج لسيارة دفع مقدمها سمير حبيب خصماً من أعمال قادمة، وتلك تحتاج لشقة دفع جزءا من ثمنها على اعتبار الخصم من الأعمال القادمة.
أنا عن نفسى أصابتنى الغيرة من الكم الهائل للكومبيوترات الموجودة بالاستوديو (و لم أكن قد تعاملت بعد مع هذا الساحر الجديد)، ورأيت فى الاستوديو كيف يسهّل العمل، فقررت أن أتعامل مع هذا الكائن الغامض بالنسبة لى، والذى أجج فى نفسى الرغبة فى الدخول الى عالم الكومبيوتر هو خوفى من أن ينظر لى إبنى أحمد المولود حديثا – عندما يكبر – نظرة إشفاق بصفتى متخلف عن العصر، وعندما صارحت سمير برغبتى فى شراء جهاز كومبيوتر أرسل إلى منزلى فى اليوم التالى أحدث و أقوى جهاز فى ذلك الوقت، حتى أن أحد أصدقائى من أصحاب الخبرة قال لى أنه جهاز يصلح لشركة وليس للاستعمال الشخصى ، و سددت لسمير ثمن الجهاز بالتقسيط.
لذا سألته ذات مرة: لماذا تفعل هذا وأنت لاتضمن السداد ، قال فى إبتسامة: أنا أستثمر فى البشر .
استطاع سمير و منى، خلق مناخ فى منتهى الانضباط ، وتعامل فى منتهى الرقى و الإحترام، و تبقى أمر واحد: أن يظهر المنتج الفنى على نفس المستوى.
و قبل أن نبدأ التسجيل جمعت كل الممثلين، وجلسنا سويا نشاهد الفيلم كاملاً إستعدادا لخوض المعركة.