الموسيقى المصرية .. متى تعود وكيف؟ (2)
بقلم : سامي فريد
أقول للوسيمي: ولكن كيف نصل إلى موسيقى مصرية بعد هذا العمر من الاغتراب؟
وتفاجئني إجابته: هل تصدق أنني فكرت في مرحلة من عمري أن أهجر الموسيقى.. عزفها أو تلحينها بعد أن استمعت إلى فرقة موسيقى “فاجنر” الألمانية وهي تعزف في سينما ريالتوب بالإسكندرية. في هذا الحفل سمعت موسيقى بيتهوفن، وقارنت ما سمعته في ذلك الحفل بما تعزفه فرقنا “فيكوتر أباس” من قدرتنا على مجاراة الموسيقى العالمية، وفكرت كثيرا كيف نعبر هذه الفجوة بين موسيقانا وموسيقاهم.
قرأت كثيرا في الكتب الموسيقي وعلوم الموسيقى الحديثة في العزف والتأليف، وانفتحت بكل كياني على الموسيقى العالمية كما بحثت في تراتنا الموسيقى في أعماقه.. في الريف والمدن والموالد والأفراح بحثا عن شخصيتنا الموسيقية في أعمق أبعادها، وتوصلت إلى اكتشاف أظنه مهما وهو أن في مصر خمسة أقاليم ثقافية متداخلة تتلامس أطرافها بعضها مع بعض وهي: البدو والسواحل والفلاحين والصعيد والنوبة وكلها يجمعها أصل ثقافي واحد جميعا متفقة بعضها مع بعض ومتنوعة في الوقت نفسه ولكن كل إقليم منها يتميز عن غيره من الأقاليم..
كيف؟.. يشرح الوسيمي فيقول: مثلا سنجد أن مربعات ابن عروس بدأت في صعيد مصر، لكنها أيضا موجوده في الوجه البحري.. المعاني واحدة ولكن الشكل مختلف، أما المضمون فهو واحد أو يكاد أن يكون واحداً، وهذا ما يمكن أن نسميه التداخل الثقافي.. من هنا – يواصل الوسيمي – بدأت التدقيق والملاحظة والتأمل في هذه المناطق الثقافية الخمسة، وقد درست التاريخ الفرعون بكل ما كتب وما شوهد على جدران المعابد الفرعونية فوجدت أن الدولة القديمة ونصف الدولة الوسطى كان سلمهما الموسيقي خماسيا، وهو ما يشبه موسيقى النوبة والسودان في حين كل السلم الموسيقي سباعيا في النصف الثاني من الدولة الوسطى والدولة الحديثة، ثم انتقل بعد ذلك إلى اليونان وهو السلم الذي ألف منه فيثاغورس السلم العالمي بعد ذلك.
ويفاجئني منير الوسيمي فيقول: سأحكي لك شيئا ستندهش له: هل تعرف أن مصر الفرعونية هي أول من عرف نظام المايسترو لقيادة العازفين، وستسألني كيف؟ فأقول لك أن ذلك كان يتم بنظام خبطات القدم وتكة الأصابع على الإيقاع وصور جدران المعابد لا تكذب..
ويواصل الوسيمي: وبعد ظهور مستر “اتيفاريدس” الإيطالي حدث ما نسميه “تمنيط الوتريات”ن بمعني وضع أنماط لها فعرف العالم فصيلة الوتريات ثم تطورت الحواريات بين الآلات وتطورت ألات النفخ، وعرف العالم نظام الأوركسترا وأصبح من الضروري وجود قائد لهذا الأوركسترا هو المايسترو..
ظل السلم الخماسي عند الفراعنة، ولكنه تراجع إلى الصعيد بعيدا عن الموسيقى التركية مستقلا بنفسه هناك بآلاته وإيقاعاته. ومن السلم الخماسي هذا ما قد نجده من آلات في مناطق مختلفة من مصر مثل السمسية في خط القناة والطنبورة المشتركة بين النوبة والصعيد ولكن مع بعض الاختلاف الطفيف.
كل هذا دفعني – والكلام لمنير الوسيمي – إلى التفكير في تكوين اوركسترا مصري من الآلات الشعبية المصرية بعد ضبطها وتخبطها أي وضعها في أنماط ثم تقسيمها إلى فصائل، ووضع كتب فيها تشرح كيفية العزف على هذه الآلات فلابد إذن من تخريج أجيال من هؤلاء العازفين الجدد على هذه الآلات من أكاديمية الفنون، وها هو أنسب الأوقات لمثل هذا العمل بعد إنشاء المعهد العالي للفنون الشعبية الذي أسسه عام 1990 الدكتور أحمد مرسي والدكتورة سمية الخولي ولابد أن يقوم هذا المعهد برعاية هذا المشروع.. وهذا هو دور وزارة الثقافة بامكاناتها، أما عني أنا فقد شكلت أول فرقة أوركسترا للآلات الشعبية سافرت بها إلى الصين واليابان وإيطاليا ولتوانيا ومالطة، وقد حصلت مصر في هذه المهرجات على شهادات تقدير من اليونسكو.
كان ذلك في أواخر التسعينيات وكانت الفرقة قد تشكلت من عازفين أشرفت على تدريبهم شخصيا فأجادوا العزف باتقان على الربابات وآلات الفنخ الخشبية والغاب كـ “عطا طه” والكولة والمزمار مع آلات الايقاع المختلفة كالطبول والدفوف والسمسميات، إضافة إلى الغناء المصري الأصيل بالمطربين الشعبيين بألوانهم المختلفة ونماذج غنائهم الذي يغطي كل مصر..
شرط واحد يضعه الوسيمي، لكي ننتج لمصر هذه الموسيقى هو أننا مازلنا نحتاج إلى تلك الورشة أو المصنع الذي سيصنع لنا هذه الآلات الفرعونية، وهو فوق طاقتي كفرد ولكنه دور الدولة في هذا العمل المهم.
ويضرب لنا الوسيمي مثلا بما فعلته الموسيقى الشعبية المصرية بامكانياتنا المحدودة في مهرجان برلين في جنوب ألمانيا بمشاركة 20 دولة أوروبية وأسيوية إضافة إلى الولايات المتحدة، وهو المهرجان الذي حصلت فيه مصر على الجائزة الأولى عن موسيقى “من وحي الجنوب”، وهى التي يذيعها البرنامج العام لإذاعة القاهرة مع برنامج “أوراق البردي ” بطولة القديرين سميحة أيوب ومحمود الحديني من إخراج رضا سليمان..
هكذا يمكننا أن نعود بالموسيقى المصرية من الجنوب إلى الشمال لنعكف على دراستها ووضع النوت الموسيقية لها، بعد أن تكون قد عادت إلينا موسيقانا المصرية “أصيلة”