كتبت : كرز محمد
يبدو واضحا أن صناع فيلم “الممر” احترموا عقول المشاهدين المصريين، ولم يتعاملوا مع صورة العدو الإسرائيلى بالشكل النمطي التقليدي التى شاهدناه كثيرا فى معظم الأفلام التى أنتجت قبل أو بعد حرب ١٩٧٣، والتي تظهر صورة الجندى الإسرائيلى متخلفا، وغير متزن، وأشعث الشعر، ملامحه متجهمة إلى حد كبير، لكن في هذا الفيلم كان هناك نوع من التوازن والمنطقية في الأحداث والتعامل مع العدو بنوع من الندية، تماما كما جاء في مشهد لقاء المواجهة الشرسة بين المقدم “نور” الذي جسده ببراعة وحرفية عالية ومطلقة النجم “أحمد عز” والضابط الإسرائيلي “دافيد أليعازر” الذي لعب دوره بإبداع منقطع النظير النجم “إياد نصار”.
نجح “إياد نصار” فى خطف الأنظار كقائد لمعسكر إسرائيلي أمعن في التلذذ بإذلال الأسرى المصريين وهدم روحهم المعنوية وقتل بعضهم، وحتى عندما وقع فى الأسر أظهر الشخصية البراجماتية النفعية التى تجيد كل أنواع الخداع، وفى الوقت نفسه، يعرف تاريخ اليهود جيدا، وصراعهم مع المصريين والعرب والمسلمين، أما الضابط المصرى ممثلا في أحمد عز، فقد كان مكتوبا بحرفية، فهو متحمس وقوى وغيور على وطنه ويتحرق شوقا للثأر من الهزيمة، وهو مثقف ويجيد العبرية بطلاقة ويرد على الضابط الإسرائيلى فى كل الموضوعات من أول الأرض إلى الدين.. والآن إلى مشهد المواجهة الذي يعتبر “ماستر سين” الفيلم:
يبدأ الحوار بين الضابط المصري “محمود” الأسير في المعسكر الإسرائيلي، والذى جسد دوره “أحمد فلوكس” بقدرة هائلة على التعبير بحس وطني، وفي محاولة لإثناء “نور”عن تراجعه بشأن الضابط الإسرائيلي قائلا له : أنا أفديك بعمري لأنك لم تتراجع عن تحريرنا، ثم نادي عليه “دافيد” وعندما اقترب منه قال له: محمود أنا تركت تعيش، فأحكم قبضته على رقبته، وقال: تركتني أعيش بعدما قتلت غالبية أفراد المعسكر من المصريين.
عندئذ تدخل “نور” صارخا من خلف محمود : “اتركه لسه آوانه ما جاش، سيأتي معنا للقاهرة علشان يحكي لهم عن خيبته”، واقترب نور من دافيد، والذي قال له : “أنت القائد تبعهم، وبأسلوب الاحتيال والمراوغة قال له : إنا مالي علاقة بالحرب، أنا أصلا لست ضابط نظامي، يعني لا بدي أقتلك ولا بدي إياك تقتلني، لو فلتوني راح أرجعكم لبلاكم سالمين، فيرد عليه نور: أنا مصدقك يعني انت ترفض هذه الحرب، طيب خليك فاكر الكلام ده كويس علشان تقوله أمام العالم كله عند وصولك القاهرة.
في نوع من التملق من جانب “دافيد”، يلتفت نحو “نور” قائلا: إحنا كلنا مؤمنين برب واحد، وربنا قال في التوراة اللي انتوا بتؤمنو فيها: أن هذه الأرض لك يا إبراهيم أنت ونسلك، ونحن نسله من أولاد “إسحاق”، فيرد نور: بس أنتوا ياأخي عنكم مشكلة، انتوا دايما بتنسوا، بتنسوا إن سيدنا إسماعيل ابن سيدنا إبراهيم، وهو أبو العرب، ولما خالفتوا الأوامر اتحكم عليكم أن تتوهوا في الأرض، مش ده برضه كلام التوراة؟.
ورغم قيوده المكبل بها يقول في تحد سافر: الأرض ماراح تأخذوهم زي ما صار في 48 ولا نسيتوا، فيرد الضابط “محمود”: لا نحن هنا الآن علشان نفكركوا، فتثور ثائرة دافيد مهددا بصوت عالي: مكنكم اتعرف خلاص، يعني كلها دقائق وراح تتمسحوا من فوق ظهر الأرض، لكن نور يرد عليه بفخر: مش مهم يا خواجة احنا عندنا مأمورية وكملناها على أكمل وجه، وبادره قائلا له: “انت بتفهم عربي؟”، فيرد دافيد: من راح يعرف لما قواتنا تدمرك وسيركتم ترحوا معاها، فيرد نور : مش مهم احنا مش عاوزين حد يعرف غير العدو اللي بنحاربه.. أنتم.
الموسيقى التصويرية تهيئ الأجواء لحديث ذي شجون من جانب “نور” الذي يتذكر أجواء المعارك قائلا : كان عندي عسكري في غارة من الغارات كان يواجه طائراتكم وهو يمسك ببندقيته – يقصد “العريف هلال” الذي يظهر في الكادر – وعندما قلت له كده ممكن تموت ، قال مش مهم يافندم المهم اننا نواجه العدو عيننا في عينيه، وانه لن يرتاح في هذه الأرض أبد .. يخيل لي أن الرسالة قد وصلت؟!، وبالنسبة للرجالة دي عاوزين يستشهدوا بس قبلها لازم يأخد كل واحد عشرة منكم، وبرضه حترجع، وأنت هترجع معانا مصر لحد ما ترجع الأرض.. تمام يارجالة فيردون في صوت واحد : تمام يافندم.. عندئذ ينتهي المشهد.
والحقيقة أن هذا المشهد الرائع ربما سيدخل هذا الفيلم تاريخ السينما المصرية، فيما يتعلق بإعادة بث الروح الوطنية فى نفوس الشباب، وتعريفهم بجوهر الصراع مع العدو الصهيونى، الذى احتل أرضهم وأرض أشقائهم العرب، وظني أن صناع هذا العمل العظيم قد التفتوا إلى نقطة جوهرية فى غاية الأهمية تتعلق بأبناء النوبة وسيناء، من خلال ربطهم ربطا منطقيا، فضلا عن استعراض حي لدورهم المهم في الانصهار في أتون المعارك ليضحوا بأرواحهم ببسالة، وقد نجحوا في هذا نجاحا باهرا، وهو مايستحق المزيد من إلقاء الضوء على هذه البطولات الفريدة في عمر وطن تحيط به المخاطر حاليا من كافة الاتجاهات.