نسرين طافش .. “أيقونة” الرومانسية العربية
بقلم : محمد حبوشة
كنا قد أدمنا إلى وقت قريب مشاهدة المسلسلات التركية التي تتسم بالطابع الرومانسي مثل مسلسلات “نور، وسنوات الضياع” مرورا بمسلسل “إيزل، والعشق الممنوع، وفريحة” وصولا إلى “شهرزاد”، و”القبضاي”، لكننا أصبحنا الآن نعيش أجواء عربية تتفوق في رومانسيها على تلك المسلسلات التركية، ولعل مسلسلي”أبو العروسة، أهو ده اللي صار” ” كانا لهما الفضل في عودة الدراما الدافئة بالمشاعر من جديد إلى الساحة المصرية الساخنة، وذلك بعد أن كان المد الرومانسي قد توقف طويلا في ظل زحف مسلسلات العنف والدم والبلطجة والأكشن المفتعل والعشوائية التي تخاصم الأجواء الرومانسية، لكن “موسم الشتاء” الحالي أكد أن الرومانسية المصرية ماتزال متجذرة، وتجلت في أوجه عديدة على مستوى الأدب والمسرح والسينما والغناء، والدراما التليفزيونية.
نعم أعاد لنا موسم الشتاء الحالي الرومانسية من جديد من خلال مجموعة من المسلسلات التي تتسم بهذا الطابع في غالبها، مثل “حواديت الشانزليزية، شبر ميه، الأخ الكبير”، وأخيرا وليس آخرا مسلسل “ختم النمر” الذي سنتوقف طويلا أمامه في ظل وجود النجمة العربية “نسرين طافش” في قلب الأحداث، وذلك جراء ما أضفته على المسلسل من دفء المشاعر والأحاسيس القادمة من الشام، حاملة في طياتها رائحة الياسمين الدمشقي بأريج عطره الفواح، وهو ماجعلها عبر أدائها الناعم تصبح مردفا لمعنى الرومانسية بل يكننا القول بأنها أصبحت “أيقونة للرومانسية العربية” حاليا، وبلا منازع.
لقد أعادت “نسرين” زمن الفتوة الرومانسية كما كانت في “زمن منى نور الدين”، ذلك الزمن الذي كان ينساب على الشاشة كعطر الأحباب ورائحة باقية ونفاذة في القلب تستدعي قصص حب وعالما بأكمله من وجوه تشكل كل منها قصة أقوى من الزمن والنسيان، وفي خضم الصخب والعنف في الظاهر، ربما كسر بعض مؤلفينا حدة ذلك الصمت الموحش في الأعماق، كما كانت تفعل تلك الكاتبة على الشاشة الصغيرة كرمز للرومانسية وصوت يسيل بعذوبة مصرية.
“ختم نمر” الذي نحن بصدده كتب له السيناريو “محمد عبد المعطى”، وقصة وإخراج “أحمد سمير فرج”، هو التجربة الدرامية الثانية لنسرين طافش في مصر، بعد مسلسلها السابق “ألف ليلة وليلة – 2015″، فضلا عن فيلم واحد هو “نادي الرجال السري”، والحقيقة أن اختيار”نسرين” لـ “ختم النمر” الذي ينتمي للون الرومانسي يؤكد نضجها في محاولة الوصول إلى قلب وعقل المشاهد المصري من منطقة دافئة، اعتمدت فيها على موهبتها في الأداء العذب النقي، وخبرتها الكبيرة في اللون الرومانسي من ناحية، ومن ناحية أخرى اعتمدت على جمالها الهادئ الذي يخطف الأبصار فور إطلالتها، لهذا فإن “المسلسل” تصدر الـ “ترند على يوتيوب وتويتر” أكثر من مرة.
تمتعت “نسرين” بجاذبية آسرة على الشاشة فور أن وطأت قدماها أرض مطار أسوان في الحلقة السابعة، على جناح الألفة التي تلازمها في شخصيتها الحقيقية، وربما هذه الألفة هى سر نجاح بعض الفنانين، وواحدا من أهم أسباب النجومية، وكونها تمتلك طاقة إيجابية كبيرة استمدتها من “علم الطاقة والروح”، فهي بالأساس ممن يؤمنون بعلم الطاقة، ولذا فهي تعكسه في صورة روح شفافة ينتظرها المشاهد بلهفة من مشهد إلى آخر في سياق الأحداث التي تتسم بالصراع، وهنا المشاهد كان يبتسم مع حركة شفاهها ويبكي مع انكماش عينيها في لحظات الغضب والتوتر، ويظل طوال الوقت يشبع رغبته الدفينة في العيش في قلب حالة رومانسية مستمدة من روح شخصية “مريم” النقية الطاهرة.
المراقب لأداء “نسرين” عن قرب في “ختم النمر” سوف يدرك أنها تعرف جيدا لغة العيون وتستخدمها بدقة وببراعة فائقة في التعبير عما يجيش بصدرها، ومن خلال قربي منها على مستوى المشاهدة لكل أعمالها، أستطيع القول بأنها الفنانة العربية الوحيدة على الإطلاق التي تمتلك مفاتيح لغة العيون، ومن ثم يصبح لديها قدرة فائقة على التعبير بنظراتها الآسرة، فضلا عن امتيازها بنبرة صوت خاصة جدا تمنحها قدرة أخرى على التجسيد البارع، فنبرة صوتها ونظراتها هما اللتان تضيفان على أدائها مزيد من المصداقية والواقعية في آن، وتلك سمات خاصة بها في كافة أدوارها.
“نسرين” قدمت خلال الـ 30 حلقة الأولى من “ختم النمر” مباراة قوية في التمثيل، واستطاعت أن تشع طاقة إيجابية في نفوس من يبادلها أطراف الحديث.. تأمل مشاهدها مع ” الأم بدور” التي تلعب دورها النجمة الكبيرة “عفاف شعيب”، ومع “عمر” الذي يلعب دوره “أحمد صلاح حسني” .. هى مشاهد رغم ما تحمله من جوانب كثيرة من الحزن، والفرح، والبكاء، والانهيار، والحب، إلا أنها قدمتها بدرجات متفاوتة في الشفافية والإتقان، الأمر الذي يتوجها كـ”أيقونة للرومانسية” بجدارة، وعلى الرغم من أنها لم تتواجد في مصر طويلا فإنه لم يفلت منها لفظا واحدا دون نطق صحيح، فقد تحدثت اللكنة المصرية البيضاء كأنها فتاة من “شبرا”، وهو ما يؤكد أنها فنانة تتعب على حالها كثيرا، وتهتم بالتفاصيل، هذا بخلاف البعد النفسي الذي تقدمه لأي شخصية فلا يمكن أن تشعر أنها شخصية باهتة أو باردة المشاهر في أي من أدوارها.
في “ختم النمر” ظل أداء نسرين يتصاعد شيئا فشيئا وبدقة شديدة مع تطور الأحداث، وكأنها تسير على درب “ستانسلافسكي” في أسلوب الأداء الصادق عن طريق جعل الممثلين يدرسون الحياة الداخلية للشخوص، كما لو كانوا أناسا حقيقين، تماما كما فعلت هى مع شخصية “مريم”، فقد عنيت بكل تفاصيلها الداخلية والخارجية، واجتهدت في خلق المقدمات السيكولوجيه اللازمة لولادة الدور بصورة عفوية، دون اللجوء إلى الايماءات والوسائل المستهلكة التى يلجا إليها كثير من الممثلين في تكرار أدائهم للون معين من ألوان التمثيل، ولما لا وهى المتمرسة في اللون الرومانسي في الدراما السورية، خاصة في مسلسلات “ربيع قرطبة، جلسات نسائية، في ظروف غامضة، العقاب والعفرا، شوق، مقامات العشق”، وغيرها من مسلسلات تحمل طابع اجتماعي في ثناياه بعض من جوانب الرومانسية العابرة.
تبدو لي “نسرين” في هذا المسلسل من بين قلة من الفنانين الموهوبين حقا، أولائك الذين يملكون طاقة هائلة ومشعة، بحيث لا يمكنهم فصل وسائل التعبير لديهم عن أنفسهم، خاصة في لحظات الرومانسية العذبة، والتي تتسم في غالبها بالهدوء والسكينة التي تلازمها في حياتها العادية، فقد أبدعت باستخدام “نظرات العيون والصوت الهادئ الهامس في شغف رومانسي حالم”، فضلا عن إدارك عميق للغة الجسد التي تقف جنبا إلى جنب مع ميزاتها النفسية والعقلية؛ إن إبداعها التمثيلي – باختصار – لا ينفصل عن شخصياتها التي تجسدها على الشاشة، ومن هنا فمن الصعب فصل موهبتها كممثلة وإبداعها عن شخصيتها الحقيقية، غير أن التمثيل فن، وكما هو الحال في أي فن، فلابد من توافر عناصر أساسية لدى الممثل، مثل المقدرة والدراسة والممارسة، وتلك كلها عوامل متوفرة بقوة لديها.
الصدق والعفوية لدى “نسرين” هما نقطتي الارتكاز في أداء الشخصيات التي تلعبها، سواء كانت مركبة تشهد انعطافات حادة، أو بسيطة للغاية في تركيبتها النفسية، وهى دائما تستخدم الأدوات الصائبة التي تقنع الجمهور بالشخصية أولا، ثم التفاعل معها ثانيا كشخص من لحم ودم، وارتكازها هنا من حيث الشكل لشخصية “مريم” نجدها في إطلالة طبيعية بلا مساحيق تجميل كثيفة توافقا مع سياق الإطار الدرامي للشخصية، إلى جانب الانطلاق بتمثيلها من شعورها الداخلي إلى التعبير بالأدوات الخارجية عن الصراعات التي تمر بها، في الحركة والفعل.
وهنا أخص لغة العيون تحديدا، والصوت الجذاب في رنة رومانسية مغايرة، بحيث يبدو “المونوتون” الذي سيطر على أداء “نسرين” لشخصية “مريم” في مسلسل”ختم النمر” صدى لـ “مونوتون” آخر في البناء الدرامي لشخصيتها، جعل هذه الأخيرة تتكلم أكثر مما تفعل، وظاهر ما يقال عنها أكبر بكثير مما هي عليه بالفعل، خاصة في ظل الاختبارات والصدمات العاطفية التي تتعرض لها من حين لآخر من جانب حبيبها “عمر”.
فى الأدب عموماً، والدراما بوجه خاص، عليك أن (تكذب بصدق)، أى أن تكون مقنعا دائما، فأهم شيىء فى السينما والرواية والمسرحية والقصة والمسلسل هو عنصر الإقناع، باعتباره العمود الفقرى للعمل الفني، وعلينا نحن كمشاهدين ألا نشك للحظة واحدة، أننا أمام حالة تمثيل وممثلين، وإلا انقطع بنا خيط المتعة، فالدراما الحقيقة لانستطيع أن نفرقها عن الحقيقة، بكل تجلياتها وبساطتها وعدم افتعالها فى غالب الأحيان، فإذا ما تسلل إليك شعور بأن ما تشاهده تمثيل سيفقد الفن معناه وفحواه ورسالته السامية، ولذا جاء أداء “نسرين طافش” فى شخصية “مريم” جاء بجرعة رومانسية تختلف تماما عن أدوارها السابقة في هذا اللون.
ولقد أثبتت جديتها واجتهادها فى أداء اللون الرومانسي هذه المرة بعفوية وتلقائية تؤكد جداراتها كممثلة تعى جيدا كيف تتفاعل مع بيئة العمل، حيث امتلكت المهارات التمثيلية الكافية لذلك، إضافة إلى إتقانها اللكنة المصرية الصحيحة، وكيفية التفاعل مع الممثلين الزملاء لها، خاصة “عمر” الذي جسده بعذوبة شديدة “احمد صلاح حسني”، ولم تبالغ كثيراً فى “اللوك” الذى اعتمدته، والمكياج الذى وضعته على وجهها اعتقادا منها أنها بهذه الطريقة وحدها بإمكانها أن تغدو فتاة رومانسية حالمة عن حق وحقيقة، وذلك طبقا لما يحدده “ستانسلافسكي”: يجب أن يكون الممثل مقنعا مقبولا متلائما مع نفسه ومع دوره بشكل كامل، وبمنطق لا يقبل الشك، يحتم عليه أن يعيش الواقع لا أن يمثله.
وهذه الحتمية ألزمت “نسرين” أن تكون حية طوال الحلقات، حيوية، تتنفس الحياة بصدق، وتضفى حضورا حيا وخاصا على الدور الذى تؤديه، وهو ما وعته تماما على المستوى الجسدى والحركي، فالثقل الجمالى للممثل وتركيزه الجسمانى يؤثران على استيعابنا لحضوره، وهكذا فإننا لا نرى فقط ملامحه الخاصة، لكننا نتفهم أيضاً إيقاع حياته وحركته الجسدية الفريدة كردة فعل على الأشخاص الأحياء من حوله، أى طريقته فى الوجود وفق وصف “إنجمار برجمان”.
“وهل يكون الشيء معدوما طالما بقي سرا في القلب حتى إذ أُفصِح عنه وُجِد؛ إذن أُفْصِح عنه ولا أُبالي، فهو موجود، لا أقمعه فكأني أُنكر نفسي، ولكن أصونه بالعفاف وأحفظه بالتذمّم وأكرمه بالوفاء.. فما الذي نصيبه بالبُعْد غير خيانة القلب والروح؟” .. يبدو لي أن “نسرين” قد اتخذت من تلك الكلمات التي جاءت على لسان “محمد بن أبي عامر المنصور”، الذي جسده النجم السوري الكبير “تيم حسن” أمامها في مسلسل “ربيع قرطبة” دستورا ملزما لها في العشق والحب والهوى، فقد حملت تلك الكلمات بين جوانها سابحة في ملكوت الرومانسية من مسلسل إلى آخر لتحط الرحال في مصر عبر مسلسل “ختم النمر” كي تفيض رومانسية أكثر نضجا وعذوبة، ومن ثم أسعدت قلوب الجمهور المصري التواق للفن الراقي.
وما يؤكد هذا الكلام أنها القائلة في إحدى تصريحاتها: “لا أخفي حبي لأدوار العشق والرومانسية، أحب تلك الأدوار كثيراً، ربما لأنني بطبعي رومانسية، وأشعر أنها ترضي شيئاً ما في داخلي، وطالما أن الرومانسية بدأت تصبح نادرة في الحياة، فأنا مع الرومانسية المطلقة والشفافية المطلقة، والحب الرومانسي إلى أقصى الحدود، وأنا أعوض هذا الشيء في التمثيل لأنه مفقود في الحياة”.. صدقتي أيتها المسكونة بالموهبة فيما ذكرتي عن فقداننا للرومانسية في هذا الزمن الذي أصبح العنف دستوره، والغضب ظاهره، والبلطجة ديدن من يحيطون بنا من كل جانب..سلمت موهبتك ودام عطاءك الفني الراقي يا “أيقونة الرومانسية العربية” عن جدارة واستحقاق.