جنود أردوغان في مطبخك
بقلم : محمد شمروخ
الدراما التركية التى فتحت لها الشاشات العربية مساحات كبيرة بين برامجها وفقراتها، ليست مجرد مسلسلات تاريخية أو اجتماعية، فيمكننا القول بأنها تعكس آمال الأتراك في التمهيد لإحياء المشروع العثمانى الذي يبذل أردوغان من أجله الغالي والرخيص.
في القرن الواحد والعشرين بالتمهيد لتحقيق حلم إعادة بسط السلطان التركي ليشمل الحدود التاريخية التى انكمشت مع القرن العشرين حتى اقتصرت على ما يسمى جغرافيا “شبه جزيرة الأناضول” أو ما يطلق عليه تاريخيا “آسيا الصغرى”.
كيف هذا؟!
لقد تمكنت الدراما التركية من غزو كثير من البيوت وعاش الناس مع ممثلين وممثلات أتراك ولو عبر الدبلجة أو الترجمة الكتابية العربية، حتى تمكنت من إزاحة الدراما السورية التى جاءتها فترة تصاعدت وعلا نجمها وقدمت نفسها كمنافس شريف لشقيقتها المصرية في العقد الأول من القرن الواحد والعشرين، سواء في أعمال منفردة بممثلين سوريين أو مشترك مع مصريين، لكن فجأة تراجع السوريون تحت وطأة الظروف السياسية التى حاقت بسوريا وكانت تركيا هى العدو الأول لسوريا ولا تخفي أطماعها فيها وفي بقية المنطقة بمحاولة إحياء المشروع العثمانى المطروح الآن والذي ترجع أولى توسعاته في المنطقة إلى سنة 1516م بعد الاستيلاء على سوريا التى كانت تخضع مع مصر لسلطان المماليك في القاهرة.
فما علاقة ذلك بالدراما؟!
ربما يتسم بالغباء ذلك الذي يدعى أن الدراما والسينما وكل أنواع الفنون وما يطلق عليه “القوى الناعمة” ليست لها علاقة بالسياسة ولا بالصراعات الدولية، فقد كانت سطوة الدراما التركية على الشاشات العربية نوعا من الاحتلال العاطفي لقلوب البسطاء الذين بدؤوا في التعلق بموضوعات وشخصيات المسلسلات التركية ولأول مرة نجد أسماء ممثلين أتراك تتردد على ألسنة العوام بأسمائهم الحقيقية أو الدرامية، كما علت صورهم جدران المراهقين المراهقات، بالرغم من أن نمط الحياة التى تعبر عنها تلك المسلسلات تكاد تتطابق مع الحياة الأوروبية والتى يعيشها الأتراك بالفعل في الطبقات الوسطى والعليا من المجتمع التركي فعبر هذا الجانب عن حلم الأتراك في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي والذي جعل من التيارات السياسية التركية على اختلافها وتنوعاتها بين أقصى اليمين وأقصى اليسار تسعى نحو هذا المشروع بكل السبل ولو تناقض مع ما تعلنه وخاصة الحزب الحاكم الحالي.
فتركيا التى قبلت كل شروط الاتحاد الأوروبي والذي يرفض حتى الآن طرح فكرة ضمها لأوروبا، تحاول بكل جهدها أن تنتصر على “عقدة الانتماء الشرقي” حتى ممن زعموا أنهم إسلاميون.
ومع تباعد فرص الاندماج الرسمي مع المجتمع الأوروبي – والذي يعنى بالضرورة أوروبا الغربية وليست الشرقية التى تعتبر بعض أراضى تركيا الغربية جزءا منها جغرافيا وتاريخيا – بدأت الدراما التركية تقدم نوعا آخر من الدراما التاريخية القائمة عل أمجاد الإمبراطورية العثمانية والتى كانت تحكم أراض في ثلاث قارات وتمتد من البلقان غربا إلى قلب آسيا شرقا بالإضافة إلى الشام والشمال الإفريقي والحجاز واليمن.
ورغم أن غالبية الفترة التاريخية الممتدة منذ غزو السلطان العثمانى سليم الأول للشام ومصر لتصبح تركيا إمبراطورية فعلية وليست سلطنة تحت ظل اغتصاب لقب الخلافة من آخر الخلفاء العباسيين في القاهرة، رغم أن تلك الأقاليم انتصرت هويتها على الهوية التركية على مدى أربعة قرون، من 1516 وحتى قيام الحرب العالمية الأولى 1914، إلا أن تركيا بدأت تعالج هذا بالدراما بإنتاج ضخم لمسلسلات تاريخية عن أباطرة آل عثمان وكلنا شاهدنا مسلسل “حريم السلطان” الذي يحكي قصة سليمان بن سليم المعروف بـ “سليمان القانوني” والذي شهد عهده أوج الإمبراطورية.
واختير سليمان بالتحديد لهذا السبب مع توافر ظروف شخصية وبيئة عائلية تحيط بأحداث حياته، تجعله صالحا لأن يكون شخصية درامية قادرة على جذب الجماهير نحو هذا السلطان في شخص ممثل قدير استطاع أن يقدم أداءً مبهرا عن هذه الشخصية.
ولأن هناك لعنة في الدراما التاريخية عموما اسمها “حرفنة التزوير” كما يبدو واضحا جليا في مسلسل “قيامة أرطغرل” فترى الناس يتعاملون مع الشخصيات التاريخية على أنها ذلك الممثل وأن الأحداث المؤلفة خصيصا والتى استباحت حقائق التاريخ بزعم الضرورة الدرامية، فقد تم بث دعاية رمادية للتاريخ التركي العثمانى والذي لا يزيد في أكثر أحداثه عمقا في الزمان عن القرن الرابع عشر، فلا تشير الدراما من قريب أو بعيد إلى أن آل عثمان الأتراك هم من نسل القبائل التركية التى استوطنت شبه جزيرة الأناضول والتى أطلق عليها فيما بعد “تركيا” الحالية والتى لم تكن أبدا موطنا للأتراك إلا قبل ذالك التاريخ بقرنين من الزمان!.
ففى الوقت الذي تقدم فيه الدراما التركية صورة حاضرة تعكس الواقع الحالى في المسلسلات العاطفية الاجتماعية التى تفقد الصلة فيها بكل ما هو شرقي عامة وإسلامي خاصة، تراها تقدم صورة زائفة تشوش الوعي وتزيف حقائق التاريخ بدراما دعائية تعمل على خدمة المشروع الأردوغاني الحالي ذي الشقين المتناقضين، سواء الشق الأوروبي أو الشق الخاص بالدعوة لإحياء الخلافة الإسلامية التى اغتصبها سليم الأول القاهرة عقب دخوله في سنة 1517م من الخليفة العباسي المتوكل على الله الثالث الذي كان يقيم في دار الخلافة التى كانت مقامة في الحي الواقع في قلب القاهر ويسمى حتى الآن باسم حي “الخليفة”، أو ذلك الزيف الدرامي التاريخي الذي ينال من دور العرب في مساندة الدولة العثمانية.
فجنود أردوغان ليسوا في شمال سوريا أو غرب ليبيا فقط، بل على كل “ريسيفر” تقلب ربات البيوت قنواته بالريموت هن بمريلة المطبغ لمتابعة أحداث المسلسل التركي!.