نبيل الحلفاوي .. شعره توقع ما يحدث الآن من مآسي
كتب : أحمد السماحي
نبيل الحلفاوي واحد من “أسطوات” التمثيل في بلدي مصر المحروسة، يجيد انتقاء أدواره، لهذا تلمع موهبته وتضيئ في كل دور يقدمه كما تضيئ النجوم في ليلة حالكة السواد، أو قطع الماس البراقة على رداء مخملي قاتم، خاصة عندما يتعاون مع مخرج يمتلك موهبة وألقا وفكرا، في أعماله الأخيرة “لأعلى سعر، ونوس، دهشة، وادي الملوك” قدم برهانا جديدا على قوته التمثيلية التى تهب كالطوفان وتخترق كل ما حولها.
مسيرة طويلة قطعها فارس الدراما بين المسرح عشقه الأول والتليفزيون، والسينما، وتقلب فيها بين أدوار عدة وشخصيات مختلفة ووجوه شتى، فهو “فكري” في ” بين السرايات”، و”صابر عبدالقوي” في “الكهف والوهم والحب”، و “المعلا جانون” في “غوايش”، “نديم قلب الأسد” فى “رأفت الهجان”،” زكريا بن راضي” في “الزيني بركات” وغيرها الكثير، وكل هذه الروافد تصب فى مجرى واحد تعكس مياهه الماسية، وجها مصريا شديد الشموخ والكبرياء، وجه مثقف دائم التجدد والتجديد يفتش عن أعمال فنية جديدة مختلفة، وعيون أخرى يسكنها وتسكنه، ترضيه، وتقنع موهبته الطاغية ويفاجئ الجمهور بها.
اليوم سنترك الفنان جانبا، ونتحدث عن الشاعر “نبيل الحلفاوي”، ونكشف عن جانب مجهول في حياته، جانب رومانسي حالم هو جانب الشعر، فكثير من القراء لا يعرفون أن صاحب “عجبي، ورجل في القلعة، عفريت لكل مواطن” وغيرها من أعماله المسرحية، صدر له ديوان شعري في شهر فبراير عام 1987 ، قام بتصميم الغلاف والإخراج الفنان “عدلي فهيم”، ورسم الرسوم الداخلية للديوان “محمد طراوي”، وقام “الحلفاوي” بإهدائه بكل رومانسية إلى زوجته ” نادية” وابنيه ” خالد ووليد” فكتب قائلا: حبيبتي نادية : أمام رقتك يتضاءل شعر كل الشعراء، وإلى خالد ووليد : أنتما أجمل قصائد عمري”.
تجربتي الشعرية
يشرح “الحلفاوي” في بداية الديوان تجربته الشعرية فيقول فى جزء منها: “أنا لم ولن أفكر إطلاقا فى اقتحام عالم الشعر، الذي حدث هو أن الشعر قد اقتحم عالمي فجأة وبضراوة شديدة أذهلتني وأربكتني بل وأرهقتني فى نفس الوقت، وقررت فى أكثر من لحظة أن أكف تماما عن كتابة الشعر، إلا أن الهجوم كان يأتي بشكل أعنف مما أستطيع مقاومته حتى أنني كتبت في ظرف شهرين فقط اثنتي عشرة قصيدة.
شيطان الشعر
كان أخي الأكبر وأستاذي “حمدي غيث” يأتي أحيانا سعيدا مشرق الوجه والروح ويحدثني في متعة غامرة كيف أن موضوعا ما أو فكرة ما أو موقفا ما قد ألح عليه إلحاحا شديدا وتملك عليه ذهنه ووجدانه، حتى وجد نفسه فجأة وقد أمسك بالقلم وكتب قصيدة أفرغ فيها هذه الشحنة الهائلة التى امتلأت بها روحه.
وكنت أستمع إليه سعيدا أنا الآخر بشعره البالغ الصدق العميق التأثير أكثر بكثير من قصائد بعض المحترفين وصناع الشعر، وكنت اتعجب فى نفس الوقت من هذه الحالة التى يجد نفسه فيها، ولم يخطر ببالي أنني سأتعرض لها في يوم ما حتى حدثت لي فجأة.
رأي صلاح جاهين
وقد سألت الفنان والشاعر “صلاح جاهين” مرة فى إحدى الجلسات الخاصة عما حدث لي بعد هذا العمر الطويل نسبيا الذي لم أحاول خلاله إطلاقا ممارسة الشعر حتى فى فترات المراهقة، فأجابني قائلا: “أنت أساسا فنان تعمل بالتمثيل فعملك إذن هو التعبير بالكلمة، ولا شك أن هناك مركزا ما فيك كإنسان يقوم بهذه المهمة، وهذا المركز كان مشحونا طوال الوقت، وكان يحتاج فقط إلى لمسة بسيطة مركزة تفجر كل ما بداخله من طاقة على التعبير، وهذا ببساطة ما حدث لك”.
ثم سألته عن موضوع شيطان الشعر هذا فأجابني: “إنه بغض النظر عن الشعر الذي يكتبه عمدا لبعض الأعمال الفنية فإنه أحيانا يشعر بالشعر يتردد فى ذهنه بدون أن يقصد فيسارع إلى القلم لتسجيل ما شعر به قبل أن ينساه”.
صديقة كانت وراء تجربتي الشعرية
ولعله من الواضح أن المفجر الأول لهذه الحالة الغريبة كان عاملا شخصيا بحتا يتمثل فى تجربة عاطفية شديدة الثراء والخصوبة، والذي حدث بالضبط أنني قد استمعت إلى قصة استفزتني أشد استفزاز عن حالة قهر معنوي تعرضت له إنسانة شديدة الرقة والشاعرية، فإذا بي في اليوم التالي وبدون أن أتعمد أمسك بالقلم لأسترسل بدون توقف إطلاقا، وفى تدفق شديد مسجلا أولى قصائدي محاولا الأخذ بثأرها وأعادة الثقة إليها وهى “القصيدة المكسورة عمدا”، وتضمنت أبيات هذه القصيدة كسرا فى الوزن فى أكثر من موضع، ولم أحاول إصلاحه بل تركتها كما هى، ووضعت لها هذا الأسم ” القصيدة المكسورة عمدا”.
نماذج من الديوان
تضمن الديوان 14 قصيدة شعرية هى “القصيدة المكسورة عمدا، دموع المسرح، موت البهجة، ترتيلة، جدك يا ولدي، سندريلا، أشواق العشاق، صعود القمر، نهاية رحلة الأحزان، أنشودة إيزيس، الأزهار الحزينة، يوم خارج الزمن، جدران الخوف الحجرية، طفلي والحب”، وجاء على الغلاف اسم قصيدة لم تنشر في الديوان بعنوان “اعتذرات إلى شاعر بني عامر”، وسننشر مقاطع من بعض هذه القصائد
…………………………………………
القصيدة المكسورة عمدا
الشعر يا حبي نبض القلب الصادق
حتى إن ضاعت تفعيله أو كسر الوزن
الشعر أحاسيس جياشة
ها قد صرفت الممنوع من الصرف
الشعر شعور، هذا أصل الكلمة
شعور صادق، وبغير الصدق
يصبح نظما أجوف، تمضغه الأفواه
لا يصل إلى القلب، يرفضه الحس
أنا ما أحببت الشع، إلا بعد الحب
يا أعذب من قالت شعرا
أن سخروا منك أو ضحكوا
أن قالوا هذا ليس بشعر
لا تبتئسي، فبدون الحب
لن يعرف أحد منهم لن يفهم
لن يشعر ….
……………………………………….
دموع المسرح
آه يا ولدي كم أفتقدك
كانت رائحتي تملأ روحك نشوة
تأتيني قبل الموعد ترتاح بحضني
تغسل أحزان اليوم، وهموم النفس
فى تلك الحجرة، هل تذكرها؟
هل تذكر تلك المتعة؟ والمرآة أمامك
والفرشاة البنية والقلم الأسود
وبقية أدوات السحر، تمتد أصابعك إليها
وبكل الإتقان، وبكل الدقة
تبدأ في العزف تصبح شخصا آخر
أسطوريا، ملكا أو شحاذا
ليس يهم، العملاق بداخلك استيقظ
ليروض وحشا يقبع بالصالة
يستأنسه ويجوس بعقله وبوجدانه
……………………………………….
موت البهجة
تنزلق الموسيقى فوق الآذان
وتتوه النغمات، تنزلق الكلمات
من بين الأفواه باهتة وكسولة
أصوات الأصحاب ملولة
والرأس ثقيلة، وردود الأفعال بليدة
عيون هائمة وشريدة
كل الألوان رمادية
أزهار ميتة مصنوعه
أكوام العلب المحفوظه
ورق الجدران و” الترتان”
ورخام مرسوم فوق الأرضية
ضاعت كل الأشياء الأصلية
وغزت “تايوان” أعماق الإنسان
قصص الحب المبتوره
والقيم المهجوره
نظرات الأطفال المكسوره
تعلن للعالم البهجة قد ماتت
……………………………………….
طفلي والحب
سنوات سبع وشهور، وتفتح قلبك للنور
وأتاني يكتم بسمته الخجلى
وتضيئ العينان الحلوة
ينساب الصوت المحبوب
يحكي عن إعجاب مشبوب
عن قلب قد مال، لفتاته برياض الأطفال
أداور وأناور أحتال، ألقى عشرين سؤال
وأخيرا قال، نطق اسمها
أسم المحبوبة “مها”
مها؟ أصيح بلا تفكير
يرفع في وجهي أجمل أصبع تحذير
ينهاني فى صوت هامس وخطير
أن أفشي سر الاسم، يسألني وعد الكتمان
وبعد ثوان، هو يفشيه …..
……………………………………….
نهاية رحلة الأحزان
يا رحلة أحزاني، هل حان الوقت؟
هل تلك نهاية خطواتي بطريق الشوك؟
أم أن هناك بقية، مازالت في علم الغيب؟
طيلة سنوات عشر
والليل الأسود يغمرني
وشهاب أحيانا يلمع
لكن يسقط محترقا
طيلة سنوات عشر
أتلقى طعنات الغدر
وسوء الطالع والأحباط
والرحلة طالت، كادت تنهار قواي
لولا صور مفجعة
لرجال سقطوا من فرط الأعياء
كانت تحميني……
……………………………………….
شهادة حمدي غيث
لم أجد أحدا استطاع أن يستبطن تجربته الوجدانية، و”يستبصرها” فى نفس الوقت، بمثل صدق الفنان “نبيل الحلفاوي”، وتلك سمة رائعة عرفتها فيه حتى قبل أن يهاجمه شيطان الشعر، فهو كثير الانكفاء على ذاته، لا يكف عن النظر الطويل إلى داخل “بئره” العميقة، ليتعرف على نفسه، أو ليتعرف أحيانا على العالم من خلال نفسه، فنفس هذا الصديق قد استوعبت بصورة رائعة، العالم الذي يعيش فيه، ومن هنا فهو شاعر وناقد صوفي وفيلسوف، فنان ومفكر، إن صداقته متعة لا حدود لعمقها وجمالها.