رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

“محسن جابر”.. رائد صناعة الغناء في مصر

على الدولة أن تهتم بصناعة الغناء
بقلم : محمد حبوشة

هو أحد أبرز صناع الموسيقى والغناء فى مصر والعالم العربي، رجل تعلوه ابتسامة هادئة دائما، ذكي ولماح في اقتناص النجوم، يملك صندوقًا للذكريات لا حدود له بخصوص صناعة تحتضر حاليا رغم أنه كان أحد روادها الأوائل ، تلك الصفات وغيرها تنسحب على ضيفنا في “بروفايل” هذا الأسبوع، بفضل ما قدمه للفن المصرى والعربى من مئات الأصوات الشجية وآلاف الأغانى التى شكلت هوية مصر الغنائية لحوالي نصف قرن من الزمان، وقد حظي انتاجه الراقي باحترام المستمع العربي في أي مكان، وظلت شركته طوال السنين هى قبلة نجوم الغناء فى مصر والعالم العربى، كما أنها كانت المصنع الذى قدم عشرات من الأصوات الشابة، والتى أصبحت فيما بعد نجوم الأغنية، وماتزال تحتل حتى الآن صدارة المشهد الغنائي العربي.

ولد “محسن جابر” في  قرية تدعى “خرسيت” بطنطا، وربما كان مولده وطبيعة نشأته في تلك القرية هى التي كانت سببا مباشرا لأن يعتلي عرش الغناء المصري والعربي طوال نصف مايقرب من خمسين عاما على جناح الإنتاج عالي الجودة والقيمة، وذلك بحكم أنها تقترب من قرية “عاطفة أبو جندى” شمالا مسقط رأس المطرب “محمد فوزى وهدى سلطان”، وقرية “شوبر الجارة” لها، وهى مسقط رأس بطل رفع الأثقال وصاحب أول ميدالية ذهبية لمصر والعرب كابتن “السيد نصير”، وأيضا قرية “سبرباى شرقا” مسقط رأس الفريق أول الشهيد “عبد المنعم رياض”، ومن قريته “خرسيت” ومن عائلتة الطالب الشهيد “على على جابر” من أوائل شهداء ثورة 1919 والمنشد الدينى “الحاج محى الدين الموزى”.

يمكن لصناعة الغناء أن تنمو في مصر ولكن بشروط

ولا يفوت الباحث في سيرة “محسن جابر” أن يلفت النظر إلى أن قريته “خرسيت” تلك التي استمدت تسميتها من اللغة الفرعونية من أصل كلمة “خورست”، وتعني “أرض عبادة الله”، وكأن ذلك يبشر بامتلاكه خارطة العالم العربي الغنائية، و هى في ذات الوقت امتداد عمرانى لمدينة طنطا الشمالي الشرقي وينتهى بها أهم وأجمل شارع بطنطا وهو شارع البحر مسقط الفنانة “أمينة رزق”، وهذا المنشأ يشير إلى أنه تربى في بيئة فنية وبطولية من طراز مختلف، حيث كان والده “محمد جابر” أحد الرجال المتدينين ويعمل مدير عام الضرائب، ومن ذوى الأملاك في طنطا، وأخيه المهندس إبراهيم ويعمل أستاذا في جامعة طنطا، وأخيه مصطفى، وهو خريج كلية التجارة ويعمل منذ تخرجه مع محسن كشركاء في شركة عالم الفن للإنتاج الغنائي وقنوات مزيكا التي جعلته أشهر رجال الأعمال الموجدون على الساحة الاعلامية في العالم العربي، وهو متزوج من مهندسة ديكور، ولديه ثلاثة أبناء ذكور محمد، مصطفى وشريف”.

صورة للذكرى مع بليغ حمدي
مع الراحلة الكبيرة وردة

عمل “جابر” في مجال إنتاج الغناء منذ منتصف السبعينيات من القرن الماضي، مع أجيال من المطربين والشعراء والملحنيين، أمثال “محمد عبدالوهاب وسيد مكاوى وبليغ حمدى، ووردة، ومحمد الكحلاوى، وعفاف راضى، وفايزة أحمد، وميادة الحناوى، وعزيزة جلال، ومحمد الحلو، نادية مصطفى، وراغب علامة، ثم عمرو دياب ومصطفى قمر وحميد الشاعرى وإليسا وآخرين”، لكن إنتاجه تراجع في مصر والعالم العربي مع ازدياد نفوذ القرصنة على المستوى الدولى، وضياع أغلب الحقوق في عالمنا العربي الذي لايلقى بالا بقضية “الملكية الفكرية”، والتي عانى محسن جابر من آثارها الوخيمة قبل أن يتم السيطرة بجهوده فردية من جانبه على حماية منتجاته الغنائية الفريدة.

والتاريخ بالتاريخ يذكر، فقد كانت أولى إنتاجات “محسن جابر” الغنائية في منتصف السبعينات من خلال ألبومات “محمد الكحلاوي” التي تحمل عناوين (حب الرسول يابا، مدد يا نبى، لاجل النبى)، وفي ذات الوقت عرف بحبه للفن الخليجي بصفة خاصة والعربي بصفة عامة منذ صغره، لذ كان أحد أبرز المشاركين في إنتاج ألبومي فنان العرب محمد عبده “يا مركب الهند” و”أيوه”، واللذان كانا سببا مباشرا، بل سفيرين على غير العادة لدخول قلوب المستمع المصري فزادت شهرة “عبده”، وبفضل هذين الألبومين أصبح “محمد عبده” من أعز واقرب أصدقائه.

معروف أن “محسن جابر” رئيس شركات “مزيكا القابضة”، وهى

تمتلك شركة “عالم الفن” التي تمتلك بدورها  كتالوجات عدة شركات، على رأسها شركة “صوت الفن” التي تحتوي على التراث الغنائي لكل من “عبد الحليم حافظ ومحمد عبد الوهاب وصباح وشادية وآخرين”، وأيضا تمتلك نفس الشركة “كتالوج “جولدن كاسيت” وتحتوى على جميع أغانى سميرة سعيد، وتمتلك ” صوت الحب للإنتاج الفني والتوزيع” تلك التي تحتوي على تراث “هاني شاكر ومحمد فؤاد ومدحت صالح وأحمد عدوية” وأيضا “موريفون” التي تضم وردة الجزائرية وسميرة سعيد ونجاة الصغيرة وآخرين”، فضلا عن “صوت لبنان” وفيها أعمال “فريد الأطرش” ناهيك عن  كتالوجات أم كلثوم.

وعلاوة على كل تلك الكتالوجات التي تمتلكها “عالم الفن” فإنها تملك “كتالوجات” كل من “عمرو دياب وميادة الحناوي ومحمد الحلو وفايزة أحمد وعزيزة جلال”، وقامة “محسن جابر” في إطار توسيع قاعدة نفوذه الخليجي بشراء “كتالوجات” الشركة السعودية “فرسان”، والتي كان يمتلكها “خالد بن محفوظ”،  وتحتوي على أعمال “أصالة نصري وأحمد عدوية وعبدالمنعم الغامدي، أي أنه بختصار يستحوذ على أكثر من 80% من الإنتاج الموسيقى الغنائى في المنطقة العربية، فضلا عن انه قام عام 2003 بأنشاء أول قناة عربية غنائية باسم (مزيكا) ثم عام 2004 أطلق القناة الثانية (مزيكا زووم).

حرص محسن جابر منذ خطواته الأولى في عالم الإنتاج على أن يقدم الجودة على المفهوم التجاري لصناعة ثقيلة كلفته كثير من الجهد والمال والعرق حفاظا على القيمة الفنية لمنتجه الذي أصبح “ماركة مسجلة” في سوق الكاسيت العربي، وذلك في فترات الازدهار التي

بعض من انتاجه في الزمن الجميل

كانت كانت فى الفترة من السبعينيات وحتى عام 2000، حيث قدم خلال تلك المرحلة كل ما يتصوره العقل العربي من إبداع حقيقى في مجال الغناء العربي الطربي الجميل، ولاشك أن الأجمل من ذلك كله أنه كان يصاحب هذا الابداع الفني الخالص مكاسب طائلة أيضا من الناحية التجارية، وهو ما يعنى أن مصر وقتها كان لديها أعلى بورصة لسوق الغناء.

لقد كانت الأرض خصبة لتقديم فن جيد في تلك الفترات الزمنية، إلى جانب ضخ مجموعة من الأصوات الجديدة، وأغلبهم حقق نجاحات كبيرة ماتزال آثارها حتى الآن”، وذلك رغم أن هذا الوقت لم يكن به سوشيال ميديا، أو فضائيات بهذا الكم الهادر حاليا، بل كان كل صوت يعتمد على نفسه وعلى شركة واحدة لها نصيب الاسد في السباق هى “عالم الفن”، والتى كانت بمثابة الحضانة وصمام الأمان لكافة المواهب على اختلاف ألوانها وأشكاله، على العكس تماما مما يحدث على الساحة حاليا، فهنالك تطوير بدون جودة، نعم دخلت مفردات جديدة على الصناعة، لكنها للأسف ساهمت فى تدهورها بدلا من الارتقاء بها، ومن ثم انحدر الذوق العام، وتغير مفهوم الغناء إلى صخب وضجيج لايطرب ولا يخاطب الروح التواقة إلى العاطفة والحب بظلال من الرومانسية العذبة الرقيقة.

بين الشاب خالد وعمرو دياب
لقطة مع نوال الزغبي

ولعل النجاح الذي حققته “عالم الفن” بفضل قيادة “محسن جابر” كان سببه المباشر والجوهرى أن هذا الزمن – فترة السبعينيات وحتى بداية الألفية الثالثة – كانت تتمتع بسمو و روحانية على مستوى صناعة الأغنية بمعايير ومواصفات قياسية على مستوى الكلمة الشاعرة الموحية التي تحمل في طياتها رسائل إنسانية نبيلة، وعلى مستوى الموسيقى الشرقية الأصيلة التي تخاطب القلب والوجدان، وحتى الجديدة منها ممثلة فى “نور العين” للمطرب “عمرو دياب” التى وصلت بنا إلى العالمية، أما الآن فقد انقلبت أوضاع الأغنية المصرية رأسا على عقب، وأصبح الخليج الآن محافظا جدا على الكلمة، تلك الكلمة التي تحمل جوانب من الرقي فى المشاعر، للأسف هم يقدمون ما كنا نصنعه فى الماضى، بينما نحن غارقون في براثن الكلمة الشاذة التي تجد لها رواجا كبيرا عند جمهور الشباب، والنقابة لا حول لها ولاقوة، والرقابة سحب منها التداول بسبب الانترنت، فالأغنية الآن لم تعد تحصل على تداول من الرقابة، ومن هنا فأى شخص تسول له نفسه أن يعمأ اغنية يطرحها فورا عبر اليوتيوب، لذا لابد أن تضع الدولة صناعة الموسيقى والغناء تحت المجهر حتى يستعيد الغناء المصري هيبته من جديد.

مع هيفاء وهبي
في تكريمه بجوار أمير الغناء العربي هاني شاكر

ومع كل ماسبق من سلبيات أدت إلى انهيار شكل الغناء المصري وانحداره إلى الدرك السفل من “المهرجانات” وبعض الألوان الشعبية الهابطة، إلا أن “محسن جابر”  – الذي اتخذ لنفسه قبل سنوات استراحة محارب ثم عاد – يظل متفائلا بعودة الغناء إلى سابق حاله من الطرب والرصانة التي يحس ويشعر بها الجمهور، لكن ذلك من وجهة نظره لايتأتي سوى بوجود خطاب موسيقى جديد يسعى لتهذيب الروح، تماما كما هو الحال في حديثنا عن إصلاح الخطاب الدينى،لأن المشكلة ليست مشكلة فرد، أنها مشكلة مجتمع، ولابد أن يكون الحل من خلال الإعلام والثقاقة وكل الأجهزة المعنية، خاصة أن الدولة فى الفترة الأخيرة قدمت نموذجا جيدا فى السينما ألا وهو فيلم “الممر” الذى ارتقى بالذوق العام، لذلك لابد أن نكرر التجربة فى الغناء.

ويضيف “محسن جابر”: إننى أحزن عندما يتم تكريمى فى دول عربية عن تاريخى الماضى وليس حاضرى، نحن رغم ما وصلنا اليه من تقدم على مستوى الأمن، فى الطرق وفى صناعات كثيرة، وبنية تحتية تحققت فى زمن قياسى خلال عصر الرئيس “السيسى” وهى شهادة حق أقولها على الملأ، لكننا على مستوى الحماية الالكترونية ينقصنا بعض الأمور، نحن تحركنا نحو حماية الدراما عندما أنشأنا منصة ”  Watch IT “، حيث أغلقت كل المواقع التى تعرض دراما، ومن هنا أتمنى أن يحدث هذا فى صناعة الغناء، بل أتمنى أن يتبنى ويرعى فخامة الرئيس مؤتمر لإنقاذ تلك الصناعة التى كانت تساهم فى الدخل القومى المصرى بنحو 4 مليارات دولار فى السنة، إلى جانب العمالة التى كانت تعمل فى هذا الحقل.

ويؤكد “جابر”: أتصور لو أحكمت مصر قبضتها على الفنون بصفة عامة والموسيقى والغناء بصفة خاصة سوف تزدهر العملية بشكل أكبر، أريد أن نخلق بيئة للحفاظ على ريادتنا، بدلا من خلق أجواء تساهم فى انتقال تلك الريادة لدول أخرى، وهنا أنا أعذر الشباب الذى يتولى العملية الآن، لأنه عندما ينظر حوله لن يجد إلا صحراء جرداء قاحلة خالية من المعنى والقيمة، فى الماضى كنت أنظر حولى أجد “صوت الفن” محمد عبدالوهاب وحليم ومجدى العمروسى، وفى الجانب الآخر موريس، كنت أسعى حتى أقدم أفضل ما لدى حتى أتفوق على المنافس.

على منصات التتويج

هكذا كانت روح  المنافسة على الأجود والأكثر قيمة في زمن الفن الجميل – كما أرداها “محسن جابر”- وفي القلب منه الموسيقى والغناء، حيث كانت الكلمة مسئولية واللحن لابد أن يكون شجيا وباعثا على البهجة والسعادة والارتقاء بالمعاني التي تسمو بالروح وتحلق بها في سماء الخيال، بعيدا عن الابتذال والتدني والوصول إلى قاع المستنقع الذي يعيشه الغناء المصري الحالي على جناح الفوضى والعشوائية والمهرجانات الصاخبة التي تفوح رائحتها الكريهة وتترك أثر سلبيا في نفوس شباب اليوم.. تحية تقدير لمحسن جابر، الذي ظل وسيظل علامة بارزة في صناعة الغناء المصري والعربي.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.