بقلم : محمد حبوشة
مما لاشك فيه أن التجربة “السورية – اللبنانية” في الإنتاج قد ساهمت إلى حد كبير في خلق لوحة متكاملة، ممتعة وغنيّة الألوان، صبت بالضرورة في خانة المسلسل السوري الذي يواجه حاليا ضعفًا واضحًا أدت إليه الحرب وتبعاتها، ومن ضمنها حصار وتضييق على توزيع المسلسلات السوريّة على المحطّات العربية، ومع ذلك فإن عددا من الممثّلين السوريين مثل “تيم حسن، عابد فهد، باسل خياط، قيس شيخ نجيب، نسرين طافش، سلاف فواخرجي، مكسيم خليل، وغيرهم ” قد تركوا بصمات مهمّة في الأعمال العربية في الآونة الأخيرة، كما أنهم أغنوا أنفسهم بخبرات جديدة تضيف إلى الرصيد الفني السوري، إضافة إلى أن الدراما صناعة تتكئ بالأساس على عوامل عديدة لم تزل المسلسلات السوريّة تحتفظ بالعديد منها وبقوة من جانب كتاب ومخرجين وفنّيّين، وتكتمل هذه الأعمال بجهات إنتاج تتصدّى لتناول موضوعات الدراما، على الرغم من أزمة التسويق، فالتسويق والمحطّات العارضة هما التحدّي الأبرزأمام صناعة الدراما السورية ، إذ إن أعمدة الدراما السورية يثبتون علو كعبهم، سواء في أعمال مشتركة، أو محلية، في ظروف صعبة وغاية في التعقيد.
ثمة دوافع عدة أدت لانتقال الممثلين السوريّين إلى المشاركة في مسلسلات عربيّة، منها أن الممثل يسعى دائما إلى تجارب جديدة تغنيه وتمنحه فرصة للاستفادة من خبرات الآخرين، ولإضافة خبرات جديدة لممثلين آخرين، ومن هذه التجارب المميزة في موسم رمضان 2018 مسلسل “الهيبة” والذي جعل من “جبل شيخ الجبل” اسم انطبع في مخيلة المشاهدين الرمضانيين، وأصبح حديث مجالسهم، ولقد استقطبت هذه الشخصية شريحة كبيرة من الشباب في كل من سوريا ولبنان، وقد ساعدت كاريزما الممثل السوري المبدع “تيم حسن” على تقديم شخصية “جبل” بطريقة مميزة قل نظيرها في مسلسلات “الأكشن” العربية فقد استطاع طوال موسمين أن لا يكون مجرّد نجمٍ درامي وإنّما شكّلَ حالةً اجتماعية بالكاراكتير الذي خَلقه، وعرَف كيف يحافظ على هيبته الإبداعية ويضيف إليها أبعاداً شعبوية جَعلت من الممثل بطلاً قومياً متسلحاً بإبداعه التعبيري فقط، وكل رشاشاته ومسدساته مجرد تفاصيل تضيف أبعاد أخرى على الشخصية، فقد جاءت هذه التجربة كظاهرة، وبدأ الكبار والصغار يتمثلون بهذه الشخصية بلباسهم الأسود ونظاراتهم السوداء وحركاتهم الصارمة والرجولية، ولقد روج “تيم حسن” لكلمة “منتهية”، التي يرددها باستمرار، ولم يقتصر هوس المعجبين بجبل على سرقة عباراته، بل قام أحدهم بتسمية مطعمه باسم “جبل” وإلى ?جانبه شعار “لازم تقرا كل العالم” وهو مستوحى من أغنية المسلسل التي يؤديها المغني السوري “ناصيف زيتون”، أما قصة شعر وذقن “جبل” فقد كان لها حصة عند المعجبين، حيث باتت موضة لدى كثير من الشباب، حتى إن بعض الصالونات وضعت عروضا وأسمت القصة “ذقن جبل فقط”.
ظني أن مسلسل ‘الهيبة” رغم ما صاحبه من مشكلات تتعلق باتهام المحامين له بالنيل من هيبة الدولة وإضعاف الشعور القومي، والتشجيع على مخالفة النظام العام، والتشهير بسمعة منطقة “بعلبك والهرمل”، وتقديمها ضمن قالب إجرامي خارج عن القانون، يعد واحد من أكثر المسلسلات جذبًا هذه السنة، فلقد نجح في استقطاب الجمهور من خلال النجوم الذين اعتمد عليهم، بالإضافة إلى عوامل أخرى عديدة، ومنها تنامى أحداث المسلسل بحسب مؤلفه “هوزان عكو” الذي وضع المشاهد في جو من الإثارة والتشويق، ولقد برع الكاتب في حبك الأحداث بتسلسل منطقي وفق علاقات وشخصيات، وربط الحوادث بما سبقها ويتلوها من حوادث وصولا إلى الصراع الذي يقود العملية الدرامية نحو النهاية المحتومة، ولقد نجح المخرج السوري “سامر برقاوي” في خلق مجتمعات عربيّة منسجمة على نحو معقول خلال أعماله السابقة، في دبيّ، ولبنان، والقاهرة، وفي أماكن أخرى أيضا، وهو ربما كان الأمر الذي دفع صحيفة “Le Monde” الفرنسيّة، أن خصصت في نسختها العالميّة الصادرة يوم 28 يونيو 2018، تحقيقا عن مسلسل “الهيبة- العودة” شمل مضمون العمل وهدفه والجوانب الفنيّة والتقنيّة له في سابقة تُحسب للإنتاج اللبناني.
والملاحظ أن “برقاوي” يحرص دائما على تسجيل حضور لامع في المواسم الرمضانية الماضية كما حدث من قبل بمسلسلاته “لو – تشيللو- نص يوم”، وأخيرًا “الهيبة”، ولذلك فقد اختار أيضا هذه المرة نجومه بدقة ملموسة ليتسيدوا المشهد، كما برع في تأليف فريق متمكّن من القيادة ، ومن ثم فقد نجح في نقل المشاهدين من حياة إلى أخرى كل مرة، ما يمنع الملل من الوجوه التي بدت محدودة في أعماله الأخيرة، إذ إنه في مسلسلي “تشيلّلو – نص يوم” اعتمد بشكل كبير على الثنائي”نادين نسيب نجيم وتيم حسن” بالإضافة إلى يوسف الخال، إلا أنه قرّر هذه السنة، على ما يبدو، أن يسلك طريقا بديلة، من خلال معالجات مختلفة لمقاطع سردية تكتسب أهميتها من خلال ما تحمله من معلومات وتقنيات تدفع الأحداث الى الأمام فتعمل مجتمعة وبصورة متعاقبة، المقطع تلو المقطع في إظهار جوهر العمل، وهو مايبدو لنا في جملة العناصر الجمالية التي أمكنه توظيفها باستغلال معطيات تقنيه مكونة من عناصر الصوت والصورة والضوء والنور والظل…إلخ، في إضفاء روح جديدة ومختلفة على المسلسل، ناهيك عن أنه أضاف نجوما آخرين يمكنهم أن يضفوا أجواء مغايرة على العمل، كما فاجأنا بتوسيع مساحة الدور للسورية القديرة “منى واصف” مرة ثانية، لتمنح عمله “الهيبة2- العودة”، فخامة ورزانة إضافية، وأضاف كذلك اللبنانيين ” نيكول سابا – رفيق على أحمد – عبده شاهين – عبد المجيد المجذوب – ميرفا القاضي – فادي أبو سمرة”، والسوريين “أويس مخللاتي – نجاح سفكوني – ولاء عزام – سامر كحلاوي”، والذين أبلوا جميعا بلاء مدهشا في أدوارهم طوال الحلقات.
اعتدنا أن يظهر النجم السوري الكبير “تيم حسن” مهاراته المتعددة في التعابير الجسدية، وهو من أبدع في “تشيللو” بمشيته المتزنة لشخصيّة “تيمور”، تلك التي تتوافق تماما مع حاشيته التي تمشي خلفه دائمًا، كما أظهر أناقة وسحرا أخاذا يليق بهذه الشخصيّة، ملبسًا ومأكلا ومزاجًا، أما تجسيده لدور “ميار” في “نصّ يوم” فقد اختار له مشية الأبله، وهو ما نجح في إظهار الشخصيّة ضعيفة وفقًا لمقتضيات الدور، وهو ما جعله بالضرورة لايواجه مشكلة مع شخصية “جبل” في “الهيبة”، إذ أنه تصرف في أدائه مثل جبل راسخ؛ قليل الكلام، هادئ، متزن، وقادر دوما على أن يكون قوام عشيرته التي يتزعمها، كما أظهر في الوقت نفسه، قوته وغلبته على أفراد عشيرته وعلى العشائر الأخرى في قريته، وعلى تجّار السلاح الذين يشكلون مصدر دخل له ولـ “عائلته”، أهل الهيبة، وفق تعبير العمل، ولا سيما أن المسلسل أنتاج لبناني، فلم يشأ أن يظهره زعيم عصابة، بقدر ما أراد أن يظهره ابنا بكرا لعشيرة تقيم على خطّ النار، ومن هنا فلابد أن نسجل إعجابا كبيرا بـ “تيم حسن” الذي جعلنا ألا ننظر إلى أدائه من خلال الصورة النمطية للزعيم التي اعتدنا عليه في الأفلام والمسلسلات المصرية، أو مسلسلات سورية مثل “باب الحارة”، الأمر الذي جعل التحدّي أمامه صعب للغاية.
لقد أثبت “تيم حسن” أنه من بين قلة من الفنانين الذين لا يمكنهم فصل وسائل التعبير لديهم عن أنفسهم، لأنهم يبدعون باستخدام أجسادهم وأصواتهم وميزاتهم النفسية والعقلية؛ أي أن إبداعهم لا ينفصل عن شخصياتهم، وأكد بما لايدع مجالا للشك في أنه من الصعب فصل موهبة الممثل وإبداعه عن شخصيته، غير أن التمثيل فن، وكما هو الحال في أي فن، فلا بد من توافر عناصر أساسية لدى الممثل، مثل المقدرة والدراسة والممارسة، الأمر الذي جعل “تيم” ممسكا بمتطلبات المرونة والتحكم والتعبيرعلى طول الخط، ويبدو أنه من فئة قليلة من الممثلين الذين يتدربون على طريقة التنفس بطريقة صحيحة، وعلى التنويع في إيقاع الصوت والنبرة، كما أنه يتقن التحدث بلهجات مختلفة، ومن أولئك المؤمنين بإن التدرب على الإلقاء والاسترخاء شيء مهم، غير أن معظم الممثلين يتدربون سنين عديدة لاكتساب القدرة على تطويع أصواتهم بشكل كبير يسمح لهم بالتحدث بصوت مرتفع أو منخفض أو بشكل حاد أو ناعم، بناء عليه يجب على الممثلين المحترفين التدرب الدائم على تحسين قدراتهم الصوتية، ومرونة أجسادهم طوال مدة ممارستهم لمهنة التمثيل، وهو ما يبدو واضحا تماما في أداء “تيم” عبر سكناته وهمساته وانفعاله الزائد عن الحد أحيانا في بعض المواقف العصيبة التي تطرأ على الأحداث.
أمّا “نادين نجيم ونيكول سابا وسبرين عبد النور” فقد أدّين دور”سمية” بنعومة عكست ضعف الشخصية في البداية، ثم أظهرت قوة في التحول إلى حب “جبل” ، عندما أبدعت في إظهار مشاعرها شيئًا فشيئًا تجاهه، فظلّت علاقتها به بين مدّ وجزر، وهذا التأرجح الفصامي شكل تحدّيا برهنت من خلاله “نيكول” على قدرتها وبراعتها في أداء الشخصية، من خلال التركيب والتكوين الخارجي والداخلي معا، والذي يتمثل بالحركة والملابس والأزياء والزمان والمكان الذي تتودد إليه تلك الشخصية، ومستوى تواجدها على الشاشة، وقد ساهمت الإضاءة المستخدمة في غرفة نومها طوال الحلقات في حسن الأداء الذي أتقنته في غالبية مشاهدها عبر الحركة والإشارة، واللتين هما الطريقتان اللتان تكمنت من خلالهما أن تصور طريقة مشي الشخصية وقامتها وإشاراتها ومميزاتها الجسمانية الخاصة، وذلك بقدرتها على فهم هدف كل دافع عاطفي وراء كل حركة تقوم بها الشخصية، ومن ثم ترجمته في شكل تجسيد انفعالي محسوب بدقة وعناية فيما كانت تذهب إليه “سمية” من خلال الأحداث.
على درب الأداء الجيد يأتي “عبده شاهين”، والذي أظهر قدرة مفاجئة في التعامل مع دور “الذراع اليمنى” لابن عمه الرعيم “جبل شيخ الجبل”، وقد اعتمد في ذلك على تعابير الوجه في حالات الغضب والسكينة، وديناميكيّة الحركة، واستثمار كل ما لديه من قوى كامنة في سبيل عدم الظهور بشخصية “الإمّعة” الذي ينفّذ أوامر الزعيم بلا أدني تفكير، وذلك من دون أن يضع لمسته الساحرة، الأمر الذي جعل “شاهين” متفوقا على دوره الضيّق إلى حد ما، ليصنع منه في النهاية خطا أساسيا في السياق الدرامي للأحداث، ما جعل المشاهدين ينتظرون ظهوره اللافت بشغف من حلقة إلى أخرى، أمّا “أويس مخللاتي”، فقد جاء تقمّصه لشخصيّة المضطرب نفسيا على نحو رائع طوال حلقات المسلسل، على الرغم من أنه ظهر بلا مخالب هذه المرّة، لأنّ ‘أصول’ العشيرة اقتضت ذلك، لكنه أبدع في تجسيد شخصية الفتى المتهوّر الذي ضاع لفترة في براثن إدمان الكحول، وهو في قرارة نفسه لا يعجبه اتزان أخيه الأكبر “جبل” في كل الأحوال إلّا أنه يرضخ له دائما باعتباره الزعيم الذي خلف والده في الحفاظ على العائلة.
ولابد لي من الإشادة بأداء الفنان اللبناني القدير “رفيق على أحمد” الذي جسد شخصية “ناظم العالي” في الجزء الثانيمن الهيبة، فقد تمتع بقدرته على تقديم كل معقد من المعاني والرموز، باعتباره الرمز المادي الرئيس لـ “أبوسلمى” ، حيث قدم دلالاته الخاصة من خلال مظهره الخارجي، وأفعاله، وسلوكياته، فضلًا عن أنه كان ينم عن الهوية الجنسية العرقية أيضا، كما أنه أظهر قدرته الفذة في التعبير عن المكان والزمان، والأهم من ذلك فهو يتفاعل مع لغات أخرى تتمثل في الإضاءة والظلال الكثسفة التي كانت تخيم عليه من خلال أحداث تتسم بالحدة والانفعال الشديد خاصة في خطابه الانتخابي، وهو بذلك يؤكد مقولة “ميشيل فوكوه”: “إن الجسد هو السطح الذي تنقش عليه الأحداث نفسها والذي تقتفي آثاره اللغة، وتقوضه الأفكار”، يضاف إلى هذا المفهوم أن ذلك الجسد – في الحياة وعلى الشاشة – يتم التعامل معه باعتباره متحركًا، وأن هذه الحركة تتدفق باستمرار لبث الدلالات من خلال أفعال وسلوكيات وتصرفات الإنسان الممثل، ولعل قدرا من هذا ينطبق أيضا على أداء “فادي أبو سمرة” في تجسيده لشخصية “هاولو” والذي اعتمد على التقنية الداخلية مؤكدا أن التعبير الجسدي للممثل يتبع إعمال الذهن، ويأتي تجسيدًا للعواطف والانتقالات المحفزة له على الإتيان بالفعل، ولكنه فعل يبدو محاكيا للواقع، بعد إعادة صياغته وتهذيبه وسعيه لتحقيق ذلك عبر مجموعة من التقنيات التي تعتمد بالأساس تنمية قدرات الممثل الجسدية والاعتماد على الجسد في التعبير عن الانفعالات الداخلية، ومن ثم فإن قدرة “أبو سمرة” التعبيرية هنا تكمن في توظيفه للطبيعة التشكيلية في جسده مؤمنًا بقدرة هذا الجسد الإنساني على التعبير عن أدق المشاعر والأحاسيس الإنسانية وأيضًا عن العلاقات بين البشر بعضهم البعض.
ربما قد عانى “الهيبة” في أجزائه الثلاثة من بطء ملحوظ في أحداث الحلقات الأولى، إذ خلت، تقريبا، من أي حدث مهمّ، ويرجع السبب في ذلك، في تقديري، إلى بنية الـ 30 حلقة التي يفرضها الموسم الرمضاني، ما يجعل المخرج أمام إحدى خيارين أحلاهما مر، إما أن يختار قصّة طويلة يضطّرّ إلى القفز داخلها عن محطات عدة، أو أن يختار قصّة قصيرة فيضطّر إلى مطها لتصبح على قياس الشهر، ومع كل ذلك، أستطيع القول إن ‘الهيبة’ يعد واحد من أفضل مسلسلات هذا الموسم، والسبب الأساسي يعود إلى نجاح المخرج “سامر برقاوي” في الحفاظ على أجواء الإثارة والتشويق في إطار حبكة درامية يغلب عليها طابع الأكشن المحبب للجمهور، فضلا عن الأداء التمثيلي لكافة فريق العمل الذي لم يأل جهدا مهما كان الدور صغيرًا، إضافة إلى أنّ النص الذي كتبه “هوزان عكو” ومعالجة السيناريو بطريقة واعية من جانب “باسم السلكا” والذي لم يضطر أبدا إلى لي عنق المنطق، فقد كان هو الأساس هذه المرة أيضا، كما أن الحوار كان عنصر مهما وأساسيا في إبراز حقيقة مشاعر الشخصيات ووصف المكان والزمان، خالقاً الجو العام الذي يمنح المشاهد شعور بالحميمية والانسجام مع ما يشاهده وصولا الى الذروة.