كتب : محمد حبوشة
عن عمر ناهز الـ 83 عاما، رحلت عن عالمنا – قبل ساعة – الفنانة الكبيرة “نادية لطفى”، بعد أن عانت في صراع طويل مع المرض، حيث تدهورت الحالة الصحية للفنانة الكبيرة في الفترة الأخيرة ، بعد أن كانت تتحسنت قليلا قبل أيام استعادت وعيها وعيها بشكل طفيف، وتحدثت مع من حولها أثناء وجودها داخل العناية المركزة تحت إشراف فريق من الأطباء، إلا أنها سرعان ما دخلت فى غيبوبة مرة أخرى، وفراقت الحياة.
وعلى أثر رحيل الفنانة “ماجدة الصباحي أعربت وقتها “نادية لطفى” عن حزنها الشديد، بعد تلقيها خبر وفاة إحدى أهم فنانات زمن الفن الجميل التي زاملتها رحلة الفن والحياة، ومن ثم تعرضت لصدمة كبيرة من الخبر المؤلم على أثر رحيل “ماجدة”، وأشادت نادية لطفى بزميلتها الراحلة ماجدة الصباحى التى كانت تتمتع بروح جميلة، إضافة إلى السلوك المحترم، وعلاقاتها الشخصية مع كل زملائها المنتمين للوسط الفنى.
جدير بالذكر أن الفنانة الراحلة كان لها مواقف سياسية مشهودة، إلى جانب مواقفها الإنسانية بحكم أنها ولدت في أحد أحياء القاهرة العريقة، حي (عابدين) بـ(القاهرة) في الثالث من يناير عام 1937، وقد وقفت على مسرح المدرسة في العاشرة من عمرها لتواجه الجمهور لأول مرة، وحصلت على دبلوم المدرسة الألمانية عام 1955.
ومارست العديد من الهوايات كان أولها الرسم، ثم انتقلت منه إلى التصوير الفوتوغرافي والكتابة، إلى أن عادت إلى موهبتها الحقيقية في التمثيل حين اكتشفها المخرج (رمسيس نجيب)، ورأى فيها بطلة فيلمه الجديد (سلطان) مع النجم (فريد شوقي)عام 1958، وتزوجت الراحلة الكبيرة من جارها الضابط البحري، ويعد من أهم أعمالها الفنية الأبرز: أفلام: (الناصر صلاح الدين، السبع بنات، الخطايا، أبي فوق الشجرة، والمومياء).
وفي مناسبة رحليها عن عالمنا نذكر بعض الوقائع التي كانت غاية في النبل والإنسانية في حياتها، كما يحكيها لنا الفنان الكبير الراحل “حمدي غيث على لسانه قائلا: مبنى عتيق يكسوه الوقار ويحيطه الهدوء من كل جانب ..الدور الرابع، شقه 22، عمارة حسن أبو باشا وزيرالداخلية الأسبق بحى العجوزه ..هنا وقفت السندريللا الجميله “سعاد حسنى” باكية تطرق باب أعز صديقاتها، شاكيه مرة من قصة حب جديدة لم تكتمل، ومرات من غدر الأيام، وهنا وقف العندليب عبد الحليم حافظ طارقا نفس الباب في منتصف الليل، ليلقى بكل أسراره فى خزائن عميقه ومحكمه الغلق، أو جاء ذات مرة ليلقى بهمومه المثقلة فى كنف تلك الجميله الشقراء شاكيا من قسوة مرض الكبد اللعين الذي ينهش أحشائه بلا رحمة.
هكذا يصف لنا الراحل الكبير “حمدي غيث” بيت سيدة تشبه تماثيل الرخام الإغريقية في بهاء طلتها، تفوح منها رائحة أرقى العطور الفرنسيه بأريجها الفواح، سيدة شقراء تتمتع بشفافية الروح إلى الحد الذي تستحى منه كل شقراوات العالم، رغم اختلاط دخان سيجارها مع خصلات شعرها الذهبى في مشاهد مصحوبة بدموعها حفرت إخدودا من ذكريات مؤلمة على وجنتيها، ولم يكن ذلك نحيبا على حالها بقدر ما كان رثاء لبنات جيلها، هذا المنزل كان لـ “بولا محمد مصطفى شفيق” الشهيرة بـ “نادية لطفى” تلك النجمه التى عاشت سنوات طويلة من العز والمجد الفني الذي حلم الجميع يوما بمحاولة الاقتراب من طيفه الندي، وعندما احتاجت إلى قربهم منها تبخروا في غمضة عين.
قليل من المخلصين فقط هم من ظلوا إلى جوارها حاليا بعد أفول النجومية، وبعدما توارت عنها الأضواء، وعزفت عنها عدسات المصورين التي كثيرا ما غاصت في زويا التألق والشهرة التي كانت تطل من خلف الستائر والأساس “الاستيل”، والذي ينتمي في أغلبه إلى العصر الفيكتوري بألقه وبريقه المصاحب لاسطوانات الموسيقى الكلاسيكية، مع بعض من إبداع الشرق العربي بصوت (أم كلثوم وعبد الوهاب وفايزة وحليم وغيرهم ) من نجوم الزمن الجميل.
الحديث عن نادية لطفى التي ترقد التي رحلت الآن عن عالمنا بعدما كانت “الملكه”، كما كان يحلو للمقربين منها أن يطلق عليها، يبدو حديثا ذو شجون، رغم مايعتريه من المتناقضات التي تنبع من شخصيتها الثائرة والمتمردة، إنها تشبه أمواج البحر عندما يعلن عن غضبه في تحد للعواصف فتتكسر على أسنته أفعال السياسة اللعينة، ومهما كانت ضراوتها سرعان ما تسلم للموج الهادر فتتحول دفة أشرعة سفائنها نحو بوابات الحرية بإباء وشمم.
ورغم أن”الملكه” حملت منذ نعومة أظافرها كل مقومات النجومية المستمدة من جمال آخاذ إلا أنها لم تكتف بذلك، بل كانت حريصة على بناء شخصية مستقله لنفسها، غير معتمدة على فتنتها وملامحها الهادئة فحسب، ودوما كانت تروق لغير المالوف وتسير فى الاتجاه المعاكس، وهذه من شيم المبدعين من أصحاب المواهب الاستثنائية، أولئك الذين يتبنون فكرة مايسمى بـ “”playing out of box أو اللعب خارج الصندوق.
رحمة الله عليها، فقد كانت هى الرقيقه الرومانسيه فى “من غير ميعاد”عام 1961 و”السبع بنات”عام 1962، ثم تأتى لتتقمص شخصية الساقطة فى فيلم “السمان والخريف” ثم تتجرأ وتقرر ارتداء ثوب جديد بدورغير مالوف، وهو “الخرساء” الجميلة فى رائعة المخرج “شادى عبد السلام” في فيلم “المومياء”، لذا فإن كل من عايش “النجمة صاحبة البريق” فى شبابها شاهد فصولا كثيرة من ذلك التناقض، ولم يكن سهلا على أحد التنبأ لوجهتها ذات الشخصيات المتعددة والوجوه والحالات الانفعالية التي تستند لموهبة مكللة بتاج التفوق.
في مسيرتها عبر شريط السينما، يبدو العام 1958 مهما فى تاريخ ، حيث شهد مولد نجومية “بولا محمد شفيق” أو “نادية لطفى” بعد أن تركت مدينة الإسكندرية – مسقط رأسها – وجاءت إلى أضواء القاهرة – علما بأنها تنحدر من أصول سوهاجية في أقصى صعيد مصر- وهو نفس العام الذى ظهرت فيه السندريللا “سعاد حسنى” بملامحها الشرقية الخالصة، لكن “بولا” كانت تحمل ملامح أوروبيه جميله ممزوجة بسحر الشرق، حيث كان والدها محاسب بسيط من أبناء محافظة سوهاج، وأمها “مجرية” تحمل جينات غربية.
يبقى الأجمل فى حياة نادية لطفي أنها في أوج نجوميتها لم تضع نفسها بمعزل عن هموم وطنها، فقد استخرجت من جيناتها الوراثيه مكنونات مصرية خالصة، فتاريخها النضالى يعود إلى ما بعد العدوان الثلاثى على مصر، حيث قامت بدور الممرضة وتناست أنها نجمة كبيرة، بل إنها فى عام 1973 وبعد ملحمة النصر العظيم نقلت مقر إقامتها إلى “مستشفى القصر العينى” لمساعدة المصابين أثناء الحرب والمساهمة فى المجهود الحربى، وكانت أيضا صاحبه أعلى صيحة فى وجه الجلاد الصهيوني “شارون” إبان مجازر “صبرا وشاتيلا” لتخرج إلى وسائل إعلام العالم أجمع من قلب المخيمات في بيروت لتفضح الممارسات الاسرائيلية واصفة إياهم بالسفاحين والجلادين مغتصبي الأرض والعرض في انتهاك صارخ لكل مباديء القانون الدولي.
ولعل قصة “نادية” مع السفاح شارون تؤكد روحها التواقة للحرية، فيحسب لها أنها كانت ضمن المحاصرين فى بيروت عام 1982، وكان شارون يستعيد قبلها بفترة لمجزرة جديدة ضد الفلسطينيين، ولكن هذه المرة كانت ثأرا شخصيا جراء فقده لإحدى خصيتيه، بعدما أطلق عليه أحد رجال المقاومة النار فأصابه فى مقتل لكنه نجا بأعجوبه وعاد لينتقم لرجولته التى فقدها إلى الأبد، ووسط المشاهد الدمويه وقفت نادية لطفى فى شجاعة تصور وترصد لتفضح جرائم السفاح ورجاله، وتذيع على العالم مافعله شارون بالشعب الأعزل .
ورغم مامضى كانت حياتها الخاصة ملكا لكل زميلاتها، فقد كانت تلك الثائرة شديدة البذخ لا تؤمن بالادخار، ولهذا باعت “فيللا” كانت تمتلكها بالمنصورية وقطعة أرض لنجل الفنان الكبير أحمد مظهر غير عابئة بالأيام الصعبه في شيخوختها، لكن بقي في رصيد عطائها بعضا من الفنانات اللاتي يقفن الآن بجوارها في اللحظات الصعبة.
نادية لطفى صاحبة قصة غريبة ومثيرة لا يعرفها أحد إذ إنها كانت إحدى سكان نفس العمارة التى كان يقطن بها وزير الداخلية الأسبق “حسن أبو باشا”، ذلك الوزير الذى جاء إلى الداخلية فى ظروف أكثر وأشد صعوبة خلفا للواء نبوي إسماعيل بعد حادث المنصة، بعد اغتيال الرئيس الراحل محمد أنور السادات، وفى هذه الفترة كان الشغل الشاغل للدوله هو القضاء على الإرهاب، ومن ثم كانت عمليات تأمين مواكب الوزراء والمسئولين شديدة الكثافة والتعقيد، خاصة وزير الداخلية، وتصادف فى يوم من الأيام موعد نزول نادية لطفى من العمارة مع لحظة نزول الوزير، وقام أفراد الأمن بمنع نادية لطفى من ركوب “الأسانسير” إلا أنفتها السكندرية غلبت نجوميتها التي لم تثنها عن عزف سيمفونية من التوبيخ للحرس، رافضة قيود الأمن في هذا الموقف، وتدخل بعض الوسطاء للصلح بين نادية والوزير فى ذلك الوقت وبالفعل نجحت المحاولات، والمثير للدهشة أن نادية أكدت للمقربين منها أنها لم تكن تعلم أصلا أن وزير الداخلية يسكن فى نفس عمارتها.
سلام على روحك العذبة أيتها “الملكة” المتوجة على عروش قلوبنا، باعثة أجمل معاني الرومانسية في نفوسنا .. ووداعا تصحبة دموع الحزن والألم ..إلى جنة الخلد بإن الله.