اليوم تمر الذكرى الـ 45 على رحيل قيثارة الشرق وكوكبه المضيىء “أم كلثوم”، ورغم كل هذه السنوات ما زالت ملىء الأسماع، بل أتحدى أن تمشي في أي من شوارع القاهرة ولا ترق أذنيك لصوت ” ثومة” وسط الزحام والضجيج في أي حارة أو زقاق أو بين أكوام البضائع المكتظة على الرصيف، ربما لأن هذه السيدة العظيمة قد أحبت مصربغير حدود فسكنت ذائقة أبنائها على مر الأيام بغير حدود أيضا كنوع من العرفان بالجميل، ووفاء لمعلمة الرومانسية والوطنية.
ولعل هذا الوفاء يبدو واضحا جليا فى كل حديث لأم كلثوم من خلال هتافات المحبين من الجمهور، ففى المغرب وقفت يوما من فرط هذا الحب متسائلة: “معقول كل هذا الحب لمصر، وكل هذا الهتاف من أجل مصر، وليس من أجلي”، وعلى مسرح الأولمبيا يزداد عجبها قائله: ” أنا مجرد مواطنة مصرية، لم أعمل شيئا استحق عليه كل هذا النجاح، إن بلدي هى صاحبة الفضل الأول فى نجاحي”، وهكذا أيضا تقول في باريس، وفى السودان، وفى ليبيا، وفى لبنان، وتونس، فى كل بلد خارج الحدود.
فى كل عاصمة كانت تعلن أنها عظيمة لأن شعبها عظيم، ساحرة لأن بلدها ساحر، تكافح بصوتها لأن بلدها يكافح بسلاحه، كانت تضرب أم كلثوم المثل في سلوكها كفرد عادي، حتى غدى صوتها مجرد وسيلة نحو هدف أكبر، تعبئة العواطف بالتضحية والفداء، وتعبئة الخزائن بالنقود، وتعبئة البنادق بالرصاص، من الآن فصاعدا سوف تغني أم كلثوم، ولكن لصالح تبرعات إزالة آثار العدوان، أو لصالح تعمير مدن القناة، أو لأي عمل يخفف عن بلدها آلام الهزيمة ويساهم في جهود النصر.. رحم الله كوكب الشرق التي نهدي إلى روحها سطور هذا الملف.
“أم كلثوم” ونجوم مملكة التلاوة
* سرعدم خروج ملحمة ” الرسول” بصوت ثومه والنقشبندي
* مصطفى إسماعيل يقول لها رأيه فى ” ليلة حب”
* عبدالباسط عبدالصمد يصفها بمطربة الشرق والغرب
*طه الفشني: أصبحت”كوكب الشرق” بسبب القرآن
ملف أعده : أحمد السماحي
“أم كلثوم محمد رفعت، طه الفشني، مصطفى إسماعيل، عبدالباسط عبدالصمد، سيد النقشبندي، حمدى الزامل”، ما الذى جمع هؤلاء المشايخ بكوكب الشرق أم كلثوم؟! كل هؤلاء العظام كانت تربطهم علاقة صداقة وحب وإعجاب وإبهار بالست، تعلموا منها وأنبهروا بالتكنيك الصوتي الذي كانت تؤدي به أغنياتها، خاصة في سنواتها الأخيرة.
فنظرا لتربيتها الدينية وتقديمها للتواشيح والمدائح النبوية فى طفولتها المبكرة لم يكن غريبا أن تتجه أنظار كوكب الشرق بعد الشهرة العريضة التى حققتها إلى القرآن الكريم، وكانت بدايتها مع تلاوة القرآن عام 1945 من خلال فيلم “سلامه” قصة “على أحمد باكثير”، وإخراج “توجو مزراحي”، حيث تلت جزء من سورة “إبراهيم”، وفي بداية الخمسينات تمنت أن تسجل القرآن كاملا بصوتها.
عن هذه الواقعة يقول الكاتب الكبير “مصطفى أمين”: فى يوم من الأيام طلبتني “أم كلثوم” وبمجرد لقائنا، قالت لي إن لها أمنية تحلم بها، وهى أن تسجل القرآن بصوتها، وأن تسجل كل آياته على اسطوانات، وإنها لا ترغب فى أن تستفيد من هذه العملية، ولكنها ستتبرع بكل حصيلة هذه التسجيلات لطلاب الجامعات المصرية غير القادرين، وقد قدر لها الخبراء فى ذلك الوقت أن تربح مليون جنيه كل عام، وتوجهنا إلى الأستاذ “نجيب الهلالي” وكان محاميا فى ذلك الوقت، وطلبنا منه أن يكتب لنا تنازلا من “أم كلثوم” عن هذا المبلغ لصالح الطلاب، وعندما اتصلت “أم كلثوم” بشيخ الجامع الأزهر آنذاك للحصول على موافقته، رفض شيخ الأزهر أن يوافق على أن تقرأ “أم كلثوم” بصوتها جميع سور القرآن، حدث ذلك رغم استحسان كثير من الشيوخ لتلواتها فى فيلم “سلامة”.
وفى نفس السياق يقول الموسيقار “رياض السنباطي” كانت تطلب مني أن أسمعها تسجيلا للشيخ “محمودصبح”، لأنها كانت تحبه جداً، وهذا يدلك على ذوقها الشرقي الديني الصميم، وكان من أحلامنا أن ألحن وتغني سورة “الرحمن”، لأن هذه السورة في جمالها وعمقها هي القرآن كله، وقد حاولت شيئا من ذلك ولكن خفت، ففي أغنية “الثلاثية المقدسة” للشاعر”صالح جودت”،غنت أم كلثوم آيه من القرآن وغيرنا فيها حتى لاتبدوعلى أنها آيه وهى”والضحى والليل ما سجى”، ولم نقل” إذاسجى”حتي لايقال أنني ألحن القرآن، وإنما هي محاوله من بعيد.
رغم أن محاولاتها باءت بالفشل فى تسجيل القرآن إلا إنها كانت على علاقة جيدة جدا بكثير من المشايخ مثل: الشيوخ “محمد رفعت، طه الفشني، مصطفى إسماعيل، عبدالباسط عبدالصمد، سيد النقشبندي”، وكان هناك علاقة صداقة تربطها بالشيخ “حمدى الزامل” وهي التى نصحته بعد أن إستمعت اليه فى منزلها أن يتقدم للإذاعه وقد كان ليصبح الشيخ “الزامل” من أعظم القراء على مرالعصورلما يتمتع به من جمال صوت وحسن أداء وإحكام غاية فى الدقة، لهذا كان من الطبيعي أن يبادلها الشيخ “الزامل” نفس الإعجاب ويشيد بصوتها وبقدرتها على التحكم فى النفس.
ولم يقتصر الإعجاب بأم كلثوم على “الزامل” فقد أكد الشيخ “مصطفى إسماعيل” الذى كانت تربطه بها علاقة وطيدة فى أكثرمن حوار تليفزيوني وإذاعي له أنه معجب بإمكاناتها الصوتية وسلامة اللغة على لسانها، ويحكي فى أحد حواراته على موقع ” اليوتيب” إنه قابلها فى مبنى “الإذاعة والتليفزيون” فى آواخر أيامها وطلبت منه أن يسمع معها جزء من أغنيتها الجديدة “ليلة حب” للموسيقار “محمد عبدالوهاب” ويقول لها رأيه، وبالفعل استمع إلى أحد كوبليهات الأغنية وأبدى إعجابه بذكائها في استعمالها لصوتها في هذه المرحلة العمرية.
وصرح الشيخ “عبدالباسط عبدالصمد” فى أحد حوارته فى لقاء تليفزيونى نادر، أنه يعشق كل ذى صوت جميل، وأنه يحب صوت سيدة الغناء العربى “أم كلثوم”، وقال عنها إنها “كوكب الشرق والغرب”.
وفى كل لقاء كان يجريه سواء للإذاعة أو الصحف كان الشيخ “سيد النقشبندي” أو”الكروان”، كما أطلق عليه، يؤكد إعجابه وحبه لصوت الست، ولم يكتف بذلك ففي لقاء بينه وبين الإعلامى الكبير “طاهرأبوزيد” فى أحد برامج الإذاعة المصرية، أعرب عن إعجابه وحبه لصوت وأغنيات “أم كلثوم”، وحين طلب منه “أبوزيد” غناء أحد أعمالها، فما كان من النقشبندى سوى أن سارع بغناء قصيدة “سلو قلبى”، خاصة الكوبليه الذى تقول فيه :”أبا الزهراء قد جاوزت قدرى، بمدحك بيد أن لى انتسابا”.
ولم يقتصر اللقاء على ذلك فقد فجر “النقشبندي” مفاجأة من العيار الثقيل عندما أعلن أنه كان هناك مشروع فني مشترك بينه وبين ” أم كلثوم” اتفقا فيه على تقديم ملحمة غنائية دينية تحت عنوان”رواية تاريخ الرسول” غناءاً، إلا أن ظروف “أم كلثوم” الصحية بداية من عام 1971 حالت دون ذلك.
أما الشيخ “محمد محمود الطبلاوي” فأكد فى كثير من حواراته الإعلامية أنه كان متابعا جيدا لأغنيات كوكب الشرق، خاصة أغنياتها الدينية مثل “سلوا قلبي، ونهج البرده، وولد الهدى ورباعيات الخيام”.
أما الشيخ “طه الفشني”، والذى بدأ حياته كمطرب، وشارك مع “أم كلثوم وعبدالوهاب” فى إحياء حفل زواج الملك “فاروق”، وكان فى وسعه أن يستمر فى الغناء لولا النزعة والتربية الدينية التى اكتسبها من أسرته المتدينة ودراسته فى الأزهر، فاتجه إلى القرآن الكريم والتواشيح الدينية، فقد صرح أن حفظ “أم كلثوم” للقرآن فى طفولتها وأداؤها للموشحات الدينية أكسب صوتها مرونة خاصة، مثل قارئ القرآن فأساليب تلاوة القرآن الكريم إذا ما قورنت بأساليب الغناء نجد أنها تتفق معها في القواعد المتبعة فى التنفس ومخارج الحروف، وبسبب هذا أصبحت كوكب الشرق مدرسة غنائية سليمة.